يتكاسل بعض الناس عن أداء العبادات أو شهود مواقف البطولة والفداء، ويتعللون في ذلك ببعض الأعذار، وهذه الأعذار قد تكون حقيقية لا غبار عليها، وقد تكون مصطنعة لا رصيد لها من الواقع، إلا ما سيطر على القلب من وساوس الشيطان أو سوء النفس البشرية، مَثَلهم كمثل من قال الله تعالى فيهم: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) (الأحزاب: 13)، وهذا الصنف الذي يختلق الأعذار ويتعلل بها، إنما يحتاج إلى قوة إيمانية تعيد إليه الصواب وتنقذه من الضياع.
أما أصحاب الأعذار الحقيقية، فإنهم يتألمون أشد الألم حين يغيب أحدهم عن موطن من مواطن الخير، ومَثل هؤلاء كمثل من قال الله فيهم: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {91} وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) (التوبة).
وهذا الصنف من الناس لا يتخلف إلا حين يفقد كل مقومات الحضور، بل إن بعضهم يغالب عذره ولا يلتفت إلى الصعوبات التي تواجهه ويتحرك نحو العمل الصالح، قاهراً لهذا العذر أو متحاملاً على نفسه، حتى لا يتخلف أو يقعد عن مواطن العزة والشرف.
وتحكي لنا السيرة النبوية عدداً من مواقف البطولة والقدرة على قهر الأعذار في غزوة «أُحد»، التي وقعت في شوال 3هـ(1).
ويمكن لنا أن نقسم هذه المواقف تحت عناوين مسميات الأعذار الفعلية، ثم نبين الكيفية التي سلكها الصحابة الكرام في قهر هذه الأعذار والتغلب عليها.
أولاً: صغر السن:
إن البعض حين يرى الأعمال المطلوبة كبيرة، وهو صغير في السن؛ يخاف ويتراجع، ويقول في نفسه: هذه أعمال الكبار، وأنا ما زلت صغيراً، لكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتقدمون في هذه المواقف، ويرغبون في الحصول على أعلى درجات الشرف والمجاهدة، ولا يلتفتون إلى ما هم عليه من صغر السن.
ويدل على ذلك ما حدث في غزوة «أُحد»، حين نادى منادي الجهاد، حيث خرج شباب الصحابة يرغبون في القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ بعضهم لصغر سنهم، ومنهم: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَالْبَرَاءَ بن عَازِب، وَأسيد بن ظُهَيْرٍ، وَعَرَابَةَ بْنَ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ، وَكَانَ قَدْ رَدَّ يَوْمَئِذٍ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رَافِعًا رَامٍ فَأَجَازَهُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا فَأَجَازَهُ(2).
ففي هذا الموقف دلالة على أن صغر السن كان أحد الأعذار التي تمنع المسلم من الخروج إلى الجهاد، لكن بعض الصحابة حرصوا على مغالبة هذا العذر، فراحوا يبحثون عن المهارات القتالية، والقدرات الحربية، التي تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يتغافل عن صغر سنهم لوجود المهارات القتالية لديهم، ثم يجيزهم للقتال.
ثانياً: كبر السن:
لم يستسلم الصحابة الكرام لكبر سنهم، ويجعلوا منه عائقاً أمام الإقدام والإقبال على الطاعات، بل إنهم قهروا هذا العذر وتغلبوا عليه، ويدل على ذلك في أحداث غزوة «أُحد»، ما أورده ابن إسحاق قائلاً: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى «أُحُدٍ»، رَفَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ، وَهُوَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ، وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ، فِي الْآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ: مَا أَبَا لَكَ، مَا تنْتَظر؟ فوالله لَا بَقِيَ لِوَاحِدِ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إلَّا ظِمْءُ حِمَارٍ، (مِقْدَار مَا يكون بَين شربتي الماء)، إنَّمَا نَحْنُ هَامَةُ (طَائِر يخرج من رَأس الْقَتِيل إِذا قتل) الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا، ثُمَّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا ثُمَّ خَرَجَا، حَتَّى دَخَلَا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِمَا، حتى قُتِلا(3).
ثالثاً: عذر الإعاقة:
قد يكون المسلم مصاباً بمرض أو عرج أو عمى أو غير ذلك من الأعذار التي ترفع عنه الحرج، حيث قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (الفتح: 17)، لكن الرغبة في شهود مواقف الخير والإقدام على طاعة الله ورسوله جعلت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يغالب عذره ويقهره.
ومن هؤلاء الصحابي الجليل عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ، فقد كَانَ رَجُلًا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ مِثْلَ الْأُسْدِ، يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ، وَقَالُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْخُرُوجِ مَعَك فِيهِ، فوالله إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ فَلَا جِهَادَ عَلَيْكَ»، وَقَالَ لِبَنِيهِ: «مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ»، فَخَرَجَ مَعَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ(4).
رابعاً: الذنوب والمعاصي:
قد يظن البعض أن الذنوب والمعاصي تمنع مغفرة الله عنه إذا هو تاب وأقبل على ربه، والحقيقة أن الله تعالى يغفر الذنوب لمن تاب، حتى وإن كان مسرفاً على نفسه فيها، حيث قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد أن كافرًا أسلم، ولم يمنعه كفره السابق من الإقدام على الجهاد في سبيل الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ: أُصَيْرِمُ بَنِي عَبْدِالْأَشْهَلِ عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، قَالَ الْحُصَيْنُ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الْأُصَيْرِمِ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ «أُحُدٍ» وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى «أُحُدٍ»، بَدَا لَهُ الْإِسْلَامُ فَأَسْلَمَ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَغَدَا حَتَّى أَتَى الْقَوْمَ فَدَخَلَ فِي عُرْضِ النَّاسِ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا رِجَالُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ إِذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَاللهِ إِنَّ هَذَا لَلْأُصَيْرِمُ، وَمَا جَاءَ؟ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنَّهُ لَمُنْكِرٌ لِهَذَا الْحَدِيثَ، فَسَأَلُوهُ مَا جَاءَ بِهِ؟ قَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو، أَحَدَبًا (عطفاً وحنواً) عَلَى قَوْمِكَ، أَوْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، آمَنْتُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ سَيْفِي فَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي، قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»(5).
خامساً: سداد الديون والخوف على العيال:
ويضرب لنا المثل في قهر هذا العذر الصحابي الجليل عبدالله بن حرام الأنصاري، حيث روى البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ «أُحُد» دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ»(6)، فقد خرج من بيته مجاهداً، وراغباً فيما عند الله من خير وفضل، ولم يمنعه الدين أو الخوف على عياله من الإقدام على الجهاد في سبيل الله، فاستخلف الله على ابنه وبناته، وأوصى ولده بهم خيراً، ثم انطلق حتى مات شهيداً في سبيل الله.
إننا حين نحكي هذه المواقف؛ نحاول الكشف عن بعض الأعذار التي قد يتمسك بها بعض الناس، ويزعمون أنها تمنعهم من حضور الصلوات أو فعل الخيرات، ثم نوضح مواقف هؤلاء الصحابة الكرام في التعامل مع تلك الأعذار والانتصار عليها، حتى تكون هذه المواقف زاداً لنا في قهر أعذارنا والتغلب على شهوات نفوسنا وتحفيز عزائمنا ورفع همتنا في طاعة الله تعالى.
____________________________
(1) السيرة النبوية، ابن هشام (2/ 60).
(2) البداية والنهاية، ابن كثير (4/ 14).
(3) السيرة النبوية، ابن هشام (2/ 87).
(4) المرجع السابق (2/ 90).
(5) رواه أحمد في مسنده، بسند حسن (23632).
(6) رواه البخاري في صحيحه (1351).