تحتاج الأمم في نهضتها إلى جميع فئات المجتمع، والطبقة التي تستأثر بالقيادة والمناصب والتخطيط والمال والنفوذ دون غيرها تتسبب في إحداث شرخ في المجتمع؛ إذ يشعر الآخرون أنهم مهمشون، وأن المجتمع غني عنهم، ولا حاجة له بهم في خدماتهم، وإن خدموا وبذلوا جهدهم فإنهم يرون أن المزايا والعطايا تتوجه إلى فئة أخرى غيرهم.
عندئذ ينسحب هؤلاء، ويعملون فقط من أجل كسب لقمة عيشهم، وأينما وجدوها ذهبوا إليها، وما عاد يهمهم رفعة وطن أو نهوضه.
فالوطن يرونه وطن الآخرين لا وطنهم هم، ويرون أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
ومن أشد الفئات التي تتأثر أشد التأثر -عندما يرون أن الوطن بحكامه ومسؤوليه لا يمنحهم الفرصة، بل ويقف في طريق تحقيق آمالهم العريضة- هم الشباب.
وإن المجتمع المسلم الأول نهض بسواعد الجميع، فانطلقوا في الآفاق ليغيروا هذا العالم؛ فكانت تلك الحضارة السامقة التي استمرت قرونًا متطاولة.
وكان عنصر الشباب فيها قد أولته القيادة الاهتمام اللائق به؛ فهم الأمل، حتى بلغ برسول الله ﷺ أن يقول: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم»(1).
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن تفسير هذا الحديث فقال: «الشيخ لا يكاد أن يسلم، والشاب -أي يسلم- كأنه أقرب إلى الإسلام من الشيخ، قال: الشرخ الشباب»(2).
وإذا ترك الشباب لهوهم ولعبهم وأقبلوا على ما ينفعهم، وتلقفهم الشيوخ بالعناية والتعليم والتربية، ولم يقطعوا صلتهم بالجيل الجديد، فكان التواصل بين الشيوخ والشباب؛ فإن ذلك يصب مباشرة في نهضة الأمة، وقد كان عبدالله بن مسعود إذا رأى الشباب يطلبون العلم قال: «مرحبًا بكم ينابيع الحكمة، ومصابيح الظلمة، خلقان الثياب، جدد القلوب، حلس البيوت، ريحان كل قبيلة»(3).
وما فعله الرسول ﷺ مع الشباب -من العناية بهم والاستفادة من طاقتهم- وقر في أذهان صحابته من بعده؛ فأبو سعيد الخدري كان إذا رأى الشباب قال: مرحبًا بوصية رسول الله ﷺ؛ أوصانا رسول الله ﷺ أن نوسع لكم في المجلس، وأن نفهمكم الحديث؛ فإنكم خلوفنا، وأهل الحديث بعدنا.
وكان يقبل على الشاب يقول له: يا ابن أخي، إذا شككت في شيء فسلني حتى تستيقن، فإنك إن تنصرف على اليقين أحب إليَّ من أن تنصرف على الشك(4).
فإذا تعلم الشباب، وزالت الشبهات من عقولهم، وحاربوا شهوات قلوبهم، واجتهدوا في أعمالهم، أصبحوا جديرين بمجالسة علية القوم، لكن الحياء قد يمنع الشباب عن الإقدام، لما قد يجدونه في أنفسهم من تحقير شأنهم، لكنَّ العالِمين هم الذين يبحثون عنهم ويدفعونهم للبروز والتفاعل، قال يوسف الماجشون: قال لنا ابن شهاب، أنا وابن أخي، وابن عم لي، ونحن غلمان أحداث نسأله عن الحديث: لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الشبان، فاستشارهم؛ يبتغي حدة عقولهم(5).
وكون أن الشباب عماد النهضات، فذلك لأنهم يملكون مزايا لا تتوفر لغيرهم؛ فعندهم القوة والطاقة على العمل، والفراغ لقلة المسؤوليات، وعدم انشغال القلب بالمشاغل والهموم، وصفاء الذهن، واتقاد العقل، لذا كان الحسن البصري يقول: قدموا إلينا أحداثكم؛ فإنهم أفرغ قلوبًا، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله تعالى أن يتم ذلك له أتمه(6).
وقد يكونون أكثر بذلاً وتسامحًا؛ فعن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألم تر إلى قول يوسف: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ (يوسف: 92)، وقال يعقوب: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ (يوسف: 98)(7).
وليس معنى ما سبق أن الشباب بلا أخطاء أو خطايا، بل الأمر أن التربية والتقويم يخرجان جيلاً مستقيمًا متحمِّلاً للمسؤولية، مقدِّرًا قيمة الكلمة، حافظًا لحدوده ومقامه؛ فلا يتعد على غيره؛ فعن قبيصة بن جابر الأسدي قال: كنت محرمًا فرأيت ظبيًا فرميته فأصبته، فمات فوقع في نفسي من ذلك، فأتيت عمر بن الخطاب أسأله، فوجدت إلى جنبه رجلاً أبيض رقيق الوجه، فإذا هو عبدالرحمن بن عوف، فسألت عمر فالتفت إلى عبدالرحمن فقال: ترى شاة تكفيه؟ قال: نعم، فأمرني أن أذبح شاة.
فلما قمنا من عنده قال صاحب لي: إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتى سأل الرجل.
فسمع عمر بعض كلامه، فعلاه عمر بالدرة ضربًا، ثم أقبل عليَّ ليضربني فقلت: يا أمير المؤمنين، إني لم أقل شيئًا، إنما هو قاله.
قال: فتركني، ثم قال: أردت أن تقتل الحرام، وتتعد بالفتيا.
ثم قال أمير المؤمنين: إن في الإنسان عشرة أخلاق، تسعة حسنة، وواحد سيئ، ويفسدها ذلك السيئ.
ثم قال: إياك وعثرة الشباب(8).
فإن لم يصقل الشاب عقله بالعلم والتجربة، ويحفظ قلبه من الشهوات، وترك نفسه مع هواها وشهواتها، ولم يهذِّب طباعه وتركها وحشية؛ فعندئذ يوشك هذا النوع أن ينطبق عليه قول ابن مسعود: الشباب شعبة من الجنون(9).
وفي واقعنا هذا وما يراه الشباب من انسداد في الأفق السياسي، وعدم تكافؤ الفرص في الحصول على العمل، ووقوع الظلم بالسجن والاعتقال إذا صدح شاب برأي يخالف رأي السلطة، ووقوع البلاء عليه، واتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية، كل هذه الظروف قد دفعت للشباب إلى اليأس من صلاح أحوالهم فضلاً عن إصلاح الوطن ونهضته.
وهذا اليأس قد دفع بعض الشباب إلى الانتحار؛ لضعف الوازع الديني في نفسه، أو بسبب الوقوع في براثن الأمراض النفسية.
وكذلك، فإن هذا اليأس قد يدفع بالبعض إلى الوقوع في النفاق والتزلف والمداهنة والكذب لتحصيل المصالح الشخصية الضيقة حتى وإن كانت ضد مصالح البلد العليا.
أو يقعد به اليأس عن العمل والتفاعل مع المجتمع، فيسقط في مهاوي البطالة؛ فيكون عالة على أبويه وأسرته، بدلاً من أن يكون معيلاً لنفسه ومنشئًا لأسرة جديدة تكون لبنة في بناء المجتمع.
ويُتوج هذا اليأس بالفرار من البلد بهجرة العقول، والبحث عن بلد بديل يجد فيه الشاب كرامته، والتقدير له، والمشاركة الحقيقية في الحياة السياسية والاجتماعية دون قيود.
وأسوأ ما في الهجرة إن كانت عبر قوارب الموت، ويرى فيها النجاة من وطنه الذي أعطاه ظهره، ولم يرعه الرعاية المناسبة له.
فالشباب طاقة إما أن يستفاد منها الاستفادة المثلى بتوظيفها لبناء نهضة الأمة، أو تكون قنبلة تنفجر في وجه المجتمع فيخسر وقتها الجميع.
________________________
(1) أخرجه الترمذي في «السير عن رسول الله ﷺ»، باب: «مَا جَاءَ فِي النُّزُولِ عَلَى الْحُكْمِ»، ح(1583) من حديث سمرة بن جندب، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
(2) مسند أحمد (33/ 322).
(3) شعب الإيمان للبيهقي (2/ 271).
(4) المرجع السابق (2/ 275).
(5) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (3/ 364).
(6) الجامع لخلاق الراوي للبغدادي (1/ 311).
(7) تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2195).
(8) أخرجه الحاكم في «المستدرك»، ح(5355)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(9) مصنف ابن أبي شيبة (8/ 163).