الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
لا يمكن للمرء أن يصل إلى منابع الحكمة والفطنة ما لم يعالج صوارف الأيام، ويغالب نوازل الأعوام، والمواقف والأحداث في حياة الكبار تمثل مخزوناً ثرياً ومورداً متدفقاً من التجارب والخبرات والحكم والعظات؛ لذا كانت التربية بالأحداث من أهم جوانب التربية وركائزها الأساسية، ومفادها أنه ربما وقعت واقعة أو حدث موقف للإنسان في حياته ويمكن استثمارها في توجيه تربوي؛ كتعديل سلوك أو تصويب خطأ أو غرس فضيلة، وهذا المسلك يرسخ في الذهن رسوخاً، ويغرس في القلب كثيراً من المعاني الإيمانية غرساً عميقاً.
الوالد اليقظ يعلم أن ما يغرسه في ولده صغيراً سيجني ثمرته كبيراً
إن النفس البشرية مجبولة على حب القدوة، والسعي إلى الكمال والتأسي بمن ترى أنه أكمل منها وأفضل، وكل إنسان في شأن ما يهواه يقتدي بمن يرى فيه الخير، ونحن في زمن فقدنا فيه القدوات، وضيعنا فيه الأسوات، فمن المفارقات العجيبة أن نرى سفلة الناس ومنحطي الأخلاق هم القدوة وأفعالهم هي الأسوة! فكم من فئة كبيرة في المجتمع قدوتها لاعب أو فنان أو مطرب أو رجل فاجر! فأصبحت الأمة في ضياع حتى في قدوتها!
دعونا نخاطب الذاكرة، ونتذكر الأيام الخوالي أيام مجدنا الزاهر، لنقف مع سيرة رجل كان للوفاء آية، وللصدق عنواناً، وللعدل منبراً.
ومن هذه الثمار اليانعة، نما وترعرع الإمام الحافظ العلَّامة المجتهد الزاهد العابد أمير المؤمنين حقاً أبو حفص عمر بن عبدالعزيز بن مروان القرشي الأموي أشج بني أمية، أما أمه فهي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
ولد عام 63هـ، وكان ثقة مأموناً له فقه وعلم وورع(1).
وأكرم به من وعاء أسري ومحضن تربوي! احتضن هذه النبتة الكريمة وتعهدها بالتوجيه والتهذيب حتى أينعت وأثمرت أطيب الثمر، وحُق له، فهو سليل بيت الفضائل، ونتاج أشجار العدل وكريم الشمائل، ويكفي أن يكون في أعلى العلم فاروق الأمة رضي الله عنه، وصدق أرحم الراحمين: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (الأعراف: 58).
بدت عليه مخايل النجابة والذكاء مبكراً، ورزق حب العلم وحفظ القرآن الكريم ومجالسة العلماء والزهاد وهو غض الإهاب.
لا بد من توافق العلاقة بين المعلم والوالد من أجل إنضاج الثمرة
بين التقويم والتحطيم
أورد الإمام الذهبي في سيرته هذا الموقف الرائع أنه «بعث به أبوه إلى المدينة ليتأدب بها، وكتب إلى أستاذه صالح بن كيسان يتعاهده، وكان يلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة فقال: ما حبسك؟! قال: كانت مُرَجّلتي تسكن شعري، فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة، وكتب بذلك إلى والده فبعث عبدالعزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره»(2)، فماذا في هذا الموقف من دروس تربوية؟
أولاً: المظهرية الجوفاء داء عضال وسم زعاف نشب بأظفاره في شتى البقاع، حيث تحرى الكثيرون النقوش وغفلوا عن إصلاح النفوس، فكم من أوقات ضيعت بسبب إصلاح القشر والإهاب والغفلة عن الجوهر واللباب! إن الوالد اليقظ يعلم أن ما يغرسه في ولده صغيراً سيجني ثمرته كبيراً، فامتشق الحسام قبل بدء الكلام فحلق رأسه أولاً، والذي سينبت مع كر الجديدين، وعاقبه أشد العقوبة؛ لأنه يعلم أن من أمن العقوبة أساء الأدب، والمعلوم أن أسلوب الثواب والعقاب من الأساليب التربوية الناجحة، والمقصود منهما التقويم لا التحطيم، تقويم الولد ليتقدم إلى الأمام، لا تحطيمه حتى يتأخر عن قيادة الزمام.
ثانياً: الدرس الأقوى والأبقى ودائماً الله أولاً، فإن نداء الله قبل أي نداء، فهو لا يؤخَّر ولا يؤجَّل؛ «قم إلى الصلاة متى سمعت النداء»، ولقد أصبح ذلك في حياته شرعة ومنهاجاً، حتى إنه لما حج أبوه ومر بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: «ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام»(3).
لقد كان الله أولاً في عدله بين الرعية، وفي عطفه على الأرامل واليتامى، وحتى حين وصيته لأولاده عند موته كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
غرس الفضائل ومقت الرذائل ينبوع يتفجر من المحيط الأسري أولاً
ثالثاً: علاقة المعلم بالوالد علاقة توافق واتساق، فلا بد من التكاتف والحب من أجل إنضاج هذه الثمرة المباركة، تعاهده وألزمه الصلوات، والولد يعرف حقائق الأشياء بعين أستاذه لأنه القدوة في الحسن والقبيح، وعد معي قليلاً إلى الوراء يوم أن كان التعليم رسالة وغاية، ثم أصبح وسيلة لأهداف قريبة وليس غاية لأهداف بعيدة.
رابعاً: غرس الفضائل ومقت الرذائل ينبوع دفاق يتفجر من المحيط الأسري أولاً، وكم في الأسر من مفارقات عجيبة! إذ كيف تأمر ولدك بالصدق وأنت كذاب؟! وكيف تأمره بالأمانة وأنت خائن؟! وكيف تأمره بمراقبة الله تعالى وأنت تنتهك محارمه؟! إن هذه كأحلام الخيال التي سرعان ما تذوب تحت شمس الواقع، أما عمر بن عبدالعزيز فقد شب مع الفضائل حتى استوى على سوقة فقال: «والله ما كذبت منذ أن علمت أن الكذب يضر أهله»(4).
وصدق فيما قال، فإن الكذب سراب يقرب البعيد ويبعد القريب، وهو الدليل الواضح والبرهان البين على خسة النفس ودناءتها وفساد دينها ودنياها.
ألا ما أحوج الأبناء والآباء إلى معايشة مثل هذه المناقب من خلال سيرة سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
_________________
(1) السير (5/ 14).
(2) المرجع السابق (5/ 116).
(3) البداية والنهاية (12/ 682).
(4) السير (5/ 121).