أورد ابن خلكان في كتاب «وفيات الأعيان» عن الإمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، المعروف بالماوردي، أنه ألّف كتباً في التفسير والفقه والسياسة الشرعية وغيرها من فنون العلم، ولم يُظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمعها كلها في موضع لا يعرفه إلا هو، فلما اقتربت وفاته قال لشخص يثق إليه: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله تعالى لم يشبها كدر، فإن عاينت الموت ووقعت في النزع الأخير؛ فاجعل يدك في يدي، فإن قبضتُ عليها وعصرتُها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى الكتب وألقها في نهر دجلة ليلاً، وإن بَسَطْتُ يدي ولم أقبض على يدك؛ فاعلم أنها قُبِلت، وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة.
قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت، وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي، فعلمت أنها علامة القبول، فأظهرت كتبه بعد وفاته(1).
ففي هذا الموقف دليل على أن الدعاة إلى الله في الحضارة الإسلامية كانوا ينشدون الإخلاص لله تعالى في أعمالهم، حيث كان الواحد منهم لا يطلب لعمله شاهداً إلا الله، ويحرص على إخفاء عمله حتى لا يعلمه إلا الله سبحانه.
والإخلاص قوة إيمانية تدفع صاحبها إلى التجرد من المصالح الشخصية والغايات الذاتية، بل تصبح حياته كلها متجهة إلى الله وحده لا شريك له، عملاً بقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).
لماذا حرصت الحضارة الإسلامية على تربية الدعاة على الإخلاص لله تعالى؟ لأن الإخلاص له ثمرات عديدة، منها:
1- الإسلام أمر به، والله لا يقبل العمل إلا به، فقد قال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) (البينة: 5)، وقوله عز وجل: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) (الزمر: 11)، وهذا كله من أجل الوصول إلى قبول الأعمال، فقد أخرج النسائي عن أبي أمامة الباهلي قال: جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: أرأيتَ رجلاً غزا يلتمسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما لَهُ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: «لا شيءَ لَهُ»، فأعادَها ثلاثَ مرَّاتٍ، يقولُ لَهُ رسولُ اللَّهِ: «لا شيءَ لَهُ»، ثمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ لا يقبلُ منَ العملِ إلَّا ما كانَ لَهُ خالصاً، وابتغيَ بِهِ وجهُهُ».
الإخلاص قوة إيمانية تدفع صاحبها للتجرد من المصالح الشخصية لتصبح حياته كلها متجهة إلى الله وحده
2- الإخلاص يصل بصاحبه إلى دوام العبادات وحسن المعاملات؛ فمن عمل عملاً من أجل أحد من الناس؛ فإنه يقوم به حين يراه هذا الشخص فقط، أما حين يفعله لوجه الله تعالى فإنه يداوم عليه، بل يحرص أن يؤديه سليماً كاملاً جميلاً، وقد أوضح الله تعالى ذلك في حديثه عن الأبرار من الناس، فقال سبحانه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) (الإنسان).
3- الإخلاص يؤدي إلى حسن الأعمال؛ فقد سئل الفضيل بن عياض عن قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)، فقال: أحسن العمل أخلصه وأصوبه، فالخالص ما كان لله وحده، والصواب ما كان على الشريعة، ثم تلا قوله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 110)(2)، وهذا هو الإحسان في الأعمال، حيث قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء: 125).
4- الإخلاص أقوى وسيلة للتأثير في الآخرين والنجاح في الدعوة؛ فالداعية المخلص يصل إلى قلوب الناس، فيُقبِلون عليه، وفي هذا يقول مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: إِذَا أَقْبَلَ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ أَقْبَلَ اللَّهُ بِقُلُوبِ الْعِبَادِ إِلَيْهِ(3)، وقال أبو عبدالرحمن السلمي: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا، قال: لأنهم تكلموا لِعِزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق(4).
وقال ابن القيم: وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل وسُنته التي لا تتحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغض ما هو اللائق به(5).
ما الوسائل التي اعتمدت عليها الحضارة الإسلامية في تربية الدعاة على الإخلاص؟
1- الوصية؛ وهي تعني توجيه النصيحة برفق ولين، وقد فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، حين أرسل الدعاة من الصحابة إلى البلاد المجاورة، فعن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي قَالَ: «أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِيكَ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَمَلِ»(6)، وقال مُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ، رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ الباهلي، أَتَى عَلَى رَجُلٍ فِي المَسْجَدِ، وَهُوَ سَاجِدٌ يَبْكِي، وَيَدْعُو، فَقَالَ: أَنْتَ أَنْتَ! لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِكَ(7)، فقد أوصاه بذلك حتى يحمل نفسه على الإخلاص في عبادته وبكائه ودعائه.
من ثمرات الإخلاص أنه يصل بصاحبه إلى دوام العبادات وحسن المعاملات والنجاح في الدعوة إلى الله
2- الدعوة إلى الإسرار بالعمل الصالح؛ فالداعية يحرص على الإسرار بما زاد عن الفرائض، حتى لا يتسرب إلى نفسه حب الثناء عليه أو الحديث عنه، وقد ورد في قصص الدعاة في الحضارة الإسلامية العديد من المواقف التي تدل على ذلك، منها ما ثبت عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي لَيْلَى يُصَلِّي، فَإِذَا دَخَلَ الدَّاخِلُ نَامَ عَلَى فِرَاشِهِ(8).
وقال محمد بن القاسم: صَحِبتُ مُحَمَّدَ بنَ أَسْلَمَ الكندي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِيْنَ سَنَةً، لَمْ أَرَهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّطَوُّعِ إِلَاّ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَسَمِعتُهُ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً يَحْلِفُ: لَوْ قَدِرتُ أَنْ أَتَطَوَّعَ حَيْثُ لَا يَرَانِي مَلَكَايَ لَفَعَلْتُ خَوْفاً مِنَ الرِّيَاءِ، وَكَانَ يَدخُلُ بَيتاً لَهُ، وَيُغْلِقُ بَابَهُ، وَلَمْ أَدرِ مَا يَصْنَعُ، حَتَّى سَمِعْتُ ابْناً لَهُ صَغِيْراً يَحكِي بُكَاءهُ، فَنَهَتْهُ أُمُّهُ، فَقُلْتُ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا الحَسَنِ يَدخُلُ هَذَا البَيْتَ، فَيَقْرأُ، وَيَبْكِي، فَيَسْمَعُهُ الصَّبِيُّ، فَيَحْكِيهِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخرُجَ، غَسَلَ وَجْهَهُ، وَاكتَحَلَ، فَلَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ البُكَاءِ، وَكَانَ يَصِلُ قَوْماً، وَيَكسُوهُمْ، وَيَقُوْلُ لِلرَّسُوْلِ: انظُرْ أَنْ لَا يَعلَمُوا مَنْ بَعَثَهُ(9).
3- اتخاذ الحيلة في إخفاء الأعمال الصالحة؛ فعَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، قَالَ: كَانَ أَيُّوْبُ السِّخْتِيَانِيُّ فِي مَجْلِسٍ، فَجَاءتْهُ عَبْرَةٌ، فَجَعَلَ يشدُّ العمامة على عينه ويَمْتَخِطُ وَيَقُوْلُ: مَا أَشَدَّ الزُّكَامَ!(10)، وروى الأصبهاني عن ابن أبي عدي قال: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، وكان خرازاً يحمل معه غداه من عندهم فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم(11).
ويقول محمد بن أعين، وكان صاحب ابن المبارك في أسفاره: كنا ذات ليلة ونحن في غزو الروم، فذهب عبدالله بن المبارك ليضع رأسه ليريني أنه ينام، يقول: فوضعت رأسي على الرمح لأريه أني أنام كذلك، قال: فظن أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمُقُه، فلما طلع الفجر أيقظني وظن أني نائم، وقال: يا محمد، فقلتُ: إني لم أنم، فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يُكلمني ولا ينبسط إليّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذلك مني لما فطنت له من العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلاً أسرَّ بالخير منه(12).
4- القدوة العملية؛ فعَنِ الْحَسَنِ البصري قَالَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ فَقُهَ الْفِقْهَ الْكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ الزوار وَمَا يَشْعُرُونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السِّرِّ فَيَكُونُ عَلَانِيَةً أَبَدًا، وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَمَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلَّا هَمْسًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ(13).
تربية الدعاة المعاصرين على الإخلاص يسهم في إنكار الذات وعدم طلب المدح والثناء على فعل الواجبات
وقال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة(14)، وفي هذا تأكيد على دور العلماء في تربية الدعاة بالقدوة العملية.
5- الحرص على التواجد في الأماكن التي يكون فيها الداعية غريباً عن الناس حتى لا يعرفه أحد، فيكون هذا أدعى إلى الإخلاص؛ فقد روى ابن الجوزي عن الحسن أنه قال: كنت مع ابن المبارك فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا، يعني حيث لم نُعْرَف ولم نُوَقَّر.
وكان سفيان الثوري يقول: وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء، لا يعرفونني فأعيش في وسطهم لا أُعْرَف، كأنني رجل من فقراء المسلمين وعامتهم.
وهكذا نجد أن دور الحضارة الإسلامية في تربية الدعاة على الإخلاص يسهم في تربية الدعاة المعاصرين على إنكار الذات، وعدم طلب المدح والثناء على فعل الواجبات، وعدم الحزن من الانتقادات، وإخلاص النية في كل المجالات.
____________________________
(1) وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 283).
(2) مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية (1/ 129).
(3) الإخلاص والنية، ابن أبي الدنيا، ص41.
(4) شعب الإيمان، البيهقي (2/ 297).
(5) إعلام الموقعين (4/ 153).
(6) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6859).
(7) سير أعلام النبلاء، الذهبي (3/ 361).
(8) حلية الأولياء، الأصبهاني (4/ 351).
(9) سير أعلام النبلاء، الذهبي (12/ 200).
(10) سير أعلام النبلاء، الذهبي (6/ 20).
(11) حلية الأولياء، الأصبهاني (3/ 94).
(12) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (1/ 266).
(13) تفسير ابن كثير (3/ 384).
(14) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 374).