تختلف الأنظار اختلافًا كبيرًا بشأن ماهية الأخلاق، بدءًا من مفهومها، ومرورًا بحدودها ورسومها، وانتهاءً بجزائها، ولأجل ما بُني عليه هذا الاختلاف -وهو الأصل المعرفي عند كل ذي نظر- تمايزت الحضارات ومنتجاتها تبعًا لذلك، ولعل من أجلِّ الأوصاف التي توصف بها الحضارة الإسلامية أنها حضارة أخلاقية، بخلاف ما نعيشه الآن في عصر المادة من انقلاب على المفاهيم الأخلاقية في عامة شؤون الحياة.
معنى الأخلاق
الأخلاق في المشهور من كلام الفلاسفة والمفكرين هي منظومة المبادئ والقيم والسلوكيات التي تنظم حياة الأفراد في المجتمع التي تضمن حصول السعادة على المستوى الفردي والجماعي، وبوصفها كذلك كمفهوم فلسفي فإنها تفتقر إلى تحديد مصدر استمدادها ثم حدودها وتفاصيلها ثم ماهية الجزاء عليها، وهذا ما ترك المساحة الكبيرة التي يجتهد فيها الناس على اختلاف أنظارهم سواء في مستوياتها النظرية أو العملية، حتى وصل بالبعض إلى تصور أخلاق بلا إلزام ولا جزاء(1)، والذي هو تفريغ للأخلاق من أخص خصائصها التي عرفناها بها فطرةً وعقلًا.
وعليه، فإن معنى الأخلاق متعدد بتعدد من تناولوه، ولا سبيل إلى اتفاق على مفهومه -حتى قبل تفاصيله التي يجب الاصطلاح عليها لأجل تحقق ثمرتها في الواقع- إلا بالاتفاق على الأصول المعرفية التي سيستمد منها، ولذلك جاءت الشرائع السماوية مبينة له جاعلة إياه فرعًا عن الإيمان بالوجود الإلهي وخلق الناس وما أُمروا به من العبودية.
مبدأ الأخلاق في الإسلام
تتكئ فلسفة الأخلاق في الإسلام على الأصل المعرفي من أن الله قد خلق الناس وهو أعلم بهم من أنفسهم؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، وتعبدهم بشريعة رضيها لهم؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، وبعث إليهم الرسل ليعلموها لهم حتى لا يصيروا إلى ضلال علمي أو عملي؛ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2)، وقد اختُصر مفهوم الشريعة في هذا البُعد الأخلاقي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»(2)، فهي بالتالي أعظم رحابة من أن تُختزل في مستوى واحد؛ بل هي شاملة للخُلُق مع الله ومع النفس ومع سائر الخَلق عاقلهم وجمادهم، فالأخلاق في نظر الإسلام هي كل الشريعة التي ارتضاها الله لعباده.
أسس الأخلاق في الإسلام
لا ينظر الإسلام إلى الأخلاق على أنها قيم مطلقة لا يجب التزامها والإلزام بها، بل هي في نظره حقيقة ما يدين به العبادُ لربهم، فكان هذا الإلزام شاملًا لكل المساحات؛ بداية من إلزام الله العبدَ باتباع أمره في نفسه، ومرورًا من إلزام الدولة المسلمة لرعاياها بالتزام الأخلاق(3)، وانتهاءً بإلزام العبد نفسه ومن ملك أمره بها، وحسب كل ذلك يكون الجزاء سواء في الدنيا بإكرام المؤمنين بعضهم لبعض، أو بالآخرة وهو الجزاء الأصيل الدائم الذي يقصده المسلمون من كل فعل أخلاقي.
وبذلك، فقد شملت هذه الأسس الجوانب الثلاثة الرئيسة؛ فهي معلومة ببلوغ الشرائع، ملزمة للعباد جميعهم بالدين الحق وهو الإسلام، يترتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة.
معالم النظام الأخلاقي في الإسلام
أهم ما يتميز به نظام الأخلاق في الإسلام أنه نظام واضح المعالم لا لبس فيه، فإن التكليف فيه منوط بالقدرة، وقد قُصد فيه اليُسر لا العسر، وتعيين المسؤولية فيه جليِّة؛ متمثلة في أصالة مسؤولية الفرد عن نفسه، ثم أهله، ومسؤولية الحاكم تجاه المحكومين، والعكس، ومسؤولية الأفراد أمام بعضهم بعضاً، وضبط كل ذلك بأوامر بيِّنة؛ كالنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر(4).
ثم تعيين مفاهيم القيم الأخلاقية بدقة في النصوص الشرعية، كالصدق والأمانة والإخلاص والرحمة والوفاء والحلم والجود والصبر والتعفف والحياء والإخاء وغيرها(5).
مركزية الأخلاق في الحضارة الإسلامية
لتقييم مدى أخلاقية الحضارات، فلا بد أن يُنظر إلى جانبين؛ أحقية الأسس المعرفية لها -كما هو متمثل في الشريعة عند المسلمين- وتقييم ما أبدعت من منتجات في ضوء ذلك.
وإنك لترى المقصد الأخلاقي التعبدي في كل ما أنتجته الحضارة الإسلامية بغير استثناء؛ ومن ذلك التزامهم الشريعة الإلهية على مستوى الدولة والجماعات والأفراد؛ التي تحفظ كل عدل وتلفظ كل ظلم، وتكفل للمجتمع الحرية فلا يستعبد بعضهم بعضًا، ولا يأكل القوي منهم الضعيف باسم القانون.
ومنه تحديد السلطات؛ بداية من سلطة الأب في بيته، ومرورًا بالسلطات الأدبية كالمربين والمدرسين والعلماء، وانتهاءً بالسلطات التنفيذية كالشُّرط والقضاة والحكام، كل ذلك حتى لا يدخل أحدهم في اختصاص الآخر فيبغي بعضهم على بعض.
ومنه الاهتمام الكبير بالتربية والسلوك لسد حاجات الروح تمامًا مثل حاجات الجسد، فصنّف العلماء المسلمون فيه المصنفات العظيمة، واعتنوا بإنفاذه واقعًا حتى يخرج جيل يحفظ حدود الأخلاق مثل حدود العلم.
ومنه تقديم أهل العلم في سائر الاختصاصات، فلا سواء في عين الحضارة الإسلامية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهذا ما حفظها من التخبط والجهل والبغي.
ومنه أنه لم يخرج عن كل ما سبق من اختراعات ومكتشفات ما يناقض فلسفته، فدفع علم المواريث في الإسلام إلى معارف لم تُسبق في علوم الرياضيات والحساب، ودفعت إرادة حفظ أوقاف المسلمين وممتلكاتهم إلى منجزات عظيمة في علم الهندسة والمساحة، ودفع ما في الشريعة من حث على التأمل في الكون وحفظ الأوقات ومعرفة مواقيت الصلاة وأوائل الشهور لأجل الصيام إلى طفرة كبيرة في علم الفلك، ودفع مقصد حفظ أبدان المسلمين إلى تقدم واسع في علوم الطب والتشريح والبصريات، ودفعت إرادة تعبيد الخلائق لله بنشر الإسلام إلى اكتشافات في علوم الجغرافيا والملاحة ورسم الخرائط، ويعجز المحصي عن عد ما أنجزته الحضارة الإسلامية من تقدم في هذه العلوم(6).
وأخيرًا
فللمتأمل أن يقارن بين أخلاقيات هذه الحضارة التي حفظت الفرد والمجتمع والبيئة، وما أنتجت الحضارة المادية الحديثة الآن من تيه للأفراد والمجتمعات وفساد لبيئتهم، وذلك ليعلم أن الخير كل الخير في الإسلام العظيم وما يُلزم به من فضائل، بخلاف غيره ممن يُعلي من القيم النفعية القاصرة ولو كانت على حساب نفسه وروحه حتى قبل غيره من الناس والجمادات من حوله.
______________________
(1) كالفيلسوف الفرنسي جييو في كتابه «نحو أخلاقية بلا إلزام ولا جزاء».
(2) أخرجه أحمد (8939)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2833).
(3) طرح مفهوم أخلاقية الدولة المسلمة للدكتور وائل حلاق في كتابه «الدولة المستحيلة».
(4) يراجع في تفصيل ذلك: دستور الأخلاق في القرآن للشيخ د. محمد عبد الله دراز.
(5) يراجع: خلق الإسلام للشيخ محمد الغزالي.
(6) البحث في فلسفة العلوم في الحضارة الإسلامية واجب أكيد؛ فبه يتبين الفرق بين آثار منتجاتها على الإنسان من صلاح والمقارنة بينه وبين ما أنتجته الحضارة المادية من تدمير للإنسان روحًا وجسدًا.