يعتبر الفقهاء أن حدث تجميع القرآن في مصحف واحد من أهم الأحداث التي حافظت على مسار الأمة وهويتها، وقد قيض لهذا الحدث الكبير رجالاً من الصحابة بدءاً من الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وانتهاء بدور القرَّاء والحفَّاظ من الصحابة والتابعين وتلاميذهم من القرَّاء العشرة والقراءات العشر المتواترة.
وقد بدأت «المجتمع» سلسلة عن «رجال القرآن» للتعريف بهم وبالجهد الكبير الذي قدموه في سبيل الحفاظ على كتاب الله ليصل إلينا كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة، واستكمالاً لتلك السلسلة نقدم شخصية اليوم وهو كاتب الوحي زيد بن ثابت، أحد كبار الصحابة، وأحد كتَّاب الوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أبرز مناقبه:
أولاً: إسلامه ورواته:
هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة، الإمام الكبير، شيخ المقرئين، والفرضيين مفتي المدينة أبو سعيد، وأبو خارجة، الخزرجي، النجاري الأنصاري، كاتب الوحي، رضي الله عنه(1)، حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صاحبيه، وقرأ عليه القرآن بعضه أو كله.
حدث عنه: أبو هريرة، وابن عباس، وقرأ عليه، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبو أمامة بن سهل، وعبدالله بن يزيد الخطمي، ومروان بن الحكم، وسعيد بن المسيب، وقبيصة بن ذؤيب؛ وأبناؤه: الفقيه خارجة، وسليمان، وأبان بن عثمان، وعطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار، وعبيد بن السباق، والقاسم بن محمد، وعروة، وحجر المدري وطاوس، وبسر بن سعيد.. وخلق كثير.
وتلا عليه ابن عباس، وأبو عبدالرحمن السلمي، وغير واحد، وكان من حملة الحجة، وكان عمر بن الخطاب يستخلفه إذا حج على المدينة، وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم «اليرموك»، وقد قُتل أبوه قبل الهجرة يوم «بعاث»؛ فربي زيد يتيماً.
ثانياً: تعلمه اللغات في أيام معدودة:
كان زيد من الأذكياء، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أسلم زيد، وهو ابن إحدى عشرة سنة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم خط اليهود؛ ليقرأ له كتبهم، قال: «فإني لا آمنهم»(2).
وروى خارجة عن أبيه زيد، قال: قدم النبي عليه السلام المدينة، وأنا ابن إحدى عشرة سنة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم كتابة يهود، قال: وكنت أكتب، فأقرأ إذا كتبوا إليه، يقول زيد: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب إليهم.
وروى الأعمش، عن ثابت بن عبيد، قال زيد: قال لي رسول الله: «أتحسن السريانية؟»، قلت: لا، قال: فتعلمها، فتعلمتها في سبعة عشر يوماً(3).
ثالثاً: جمع القرآن:
ذكر زيد بن ثابت أنه كان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بقطعة القتب أو كسرة، فيكتب ما نزل فيها من الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه ويصحح له ما قد يقع من سقط أثناء الكتابة فيقيمه(4)؛ أي أن القرآن كان يكتب بالفعل في عهد النبوة، لكنه لم يكن مجموعاً في مصحف واحد، وبالرغم من المستجدات التي طرأت على الأمة من موت الصحابة في معركة «اليمامة» والحاجة للحفَّاظ على القرآن، لكنه لم يكن أمراً سهلاً، وقد اعتبره بعض الصحابة كذلك لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، ومنهم أبو بكر الصديق نفسه حتى أقنعه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وظل به حتى شرح الله صدره للفكرة، وكلف به زيد بن ثابت، كاتب الوحي.
وتخوف زيد من تلك المهمة واستثقلها حتى قال: «فواللهِ لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي منه»، وقد تعلل لذلك بكون جمع القرآن عملاً لم يسبق أن فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حياته.
ويروي زيد فيقول: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحر يوم «اليمامة» بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه» (صحيح البخاري).
رابعاً: أسباب اختياره لجمع القرآن:
اعتمد أبو بكر الصديق زيد بن ثابت دون غيره لجمع القرآن من الصحف وصدور الرجال لأسباب عديدة، منها:
1- ذكاؤه الواضح منذ طفولته؛ حيث حفظ بعض سور القرآن (وكان لم يكتمل نزوله بعد حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة)، فأحاطه النبي صلى الله عليه وسلم بعنايته حيث كان صبياً في سن الحادية عشرة سنة وقربه إليه ثم كلفه بتعلم العبرية والسريالية
2- تكليف النبي له بكتابة الوحي، وكان زيد مجاوراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كلما أنزل شيء من القرآن إلا وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلب زيد من أجل كتابة ما أنزل، وقد وصف ابن ثابت بعض التفاصيل والأحوال المصاحبة للحظات نزول الوحي وكتابته، سواءٌ حالة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلقّى الوحي السماوي عن ربّه بواسطة جبريل عليه السلام أو حالته وهو يكتب الوحي، وكذلك الآليات والأدوات المتوافرة آنذاك التي كان يصطحبها معه لكتابة الوحي.
فقد رَوى الطبراني في المعجم الأوسط عن زيد بن ثابت، قال: «كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه أخذته بُرَحاء شديدة، وعَرق عرقاً شديداً مثل الجمان، ثم سري عنه، فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة، فأكتب وهو يملي علي، فما أَفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقَل القرآن، وحتى أقول: لا أمشي على رجلي أبداً، فإذا فرغت، قال: «اقرأه»، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس»(5).
3- أنه شهد العرضة الأخيرة للنبي صلى الله عليه وسلم للقرآن؛ فقد رَوى البغوي في شرح السُّنة عن أبي عبدالرحمن السُّلَمِي، أنه قال: «كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرّتين في العام الذي قُبض فيه، وكان عليٌّ طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتّخذه إمامًا.
وقال أبو عبدالرحمن السُّلَمِي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفّاه اللهُ فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئ الناسَ بها حتى مات؛ ولذلك اعتمده أبو بكر، وعمر، في جمعه، وولّاه عثمان كِتْبَةَ المصاحف، رضي الله عنهم أجمعين(6).
وفاته
وقد اختلفوا في وفاة زيد على أقوال: فقال الواقدي، وهو إمام المؤرخين: مات عام 45هـ عن 56 عاماً، وتبعه على وفاته يحيى بن بكير، وشباب، ومحمد بن عبدالله بن نمير(7).
_______________
(1) سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين الذهبي، ص 428.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان الفسوي (ت 277هـ)، تحقيق: أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة- بيروت، الطبعة: الثانية، 1401هـ/ 1981م، (1/ 377).
(5) المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (ت 360هـ)، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين- القاهرة، (2/ 257).
(6) شرح السُّنة، أبو محمد الحسين البغوي (ت 516هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط- محمد زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي- دمشق، بيروت، الطبعة: الثانية، 1403هـ/ 1983م، (4/ 526).
(7) سير أعلام النبلاء، الذهبي.