الإحسان هو الصفة الأولى التي وردت في كتاب الله تعالى عمن يحبهم الله عز وجل، فقال تعالى: (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195).
والإحسان، اصطلاحاً، أن يَعبد المسلم خالقه جل وعلا، بحيث تكون عبادته على وجه الحضور مع استشعار مراقبة الله سبحانه وتعالى، فيَشعر وكأنه يرى الله سبحانه وتعالى ويراقبه، ويتيقن أن الله مطلِع عليه، وناظر إليه؛ مما يدفع المسلم إلى دوام طاعة الله، ويدفعه كذلك لزيادة التقرّب إلى الله، وهو رادع قوي عن المعاصي(1)، قال بعض العلماء: الإحسان هو العبادات والأعمال التي يتقرب بها المسلم إلى الله تبارك وتعالى من النوافل التي لم يفرضها الله على المسلم؛ فاعتبر العلماء أن التزام النوافل يعتبر من الإحسان(2).
والإحسان الذي يذكره الله عز وجل في الآيات الكريمة هو الإحسان بمفهومه الشامل: إحسان في العقائد وفي العبادات، وفي الأخلاق، وفي معاملة الخلق، أمر الله به ووعد بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة على من أحسن في دنياه، قال تعالى: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وفي حديث جبريل الشهير حين يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فيقول عليه الصلاة والسلام: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (متفق عليه)، ومرَّ عبدالله بن عمر بن الخطاب على غلام يرعى أغنامًا لسيده، فأراد ابن عمر أن يختبر الغلام، فقال له: بع لي شاة، فقال الصبي: إنها ليست لي، ولكنها ملك لسيدي، وأنا عبد مملوك له، فقال ابن عمر: إننا بموضع لا يرانا فيه سيدك، فبعني واحدة منها، وقل لسيدك: أكلها الذئب، فاستشعر الصبي مراقبة الله، وصاح: إذا كان سيدي لا يرانا، فأين الله؟! فسرَ منه عبدالله بن عمر، ثم ذهب إلى سيده، فاشتراه منه وأعتقه، وهذه القصة تجسد معنى المراقبة لله عز وجل من ذلك الغلام التقي المحسن في تقواه في علاقته بالله عز وجل.
فالإحسان، إذن، مراقبة الله في السر والعلن، وفي القول والعمل، وهو فعل الخيرات على أكمل وجه، وابتغاء مرضات الله، والإحسان مطلوب من المسلم في كل عمل يقوم به ويؤديه، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيحد أحدكم شَفْرته، ولْيُرِح ذبيحته» (رواه مسلم).
أنواع الإحسان
أولاً: الإحسان مع الله تعالى:
هو أن يستشعر الإنسان وجود الله معه في كل لحظة، وفي كل حال، خاصة عند عبادته لله عز وجل، فيستحضره كأنه يراه وينظر إليه، قال صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (متفق عليه).
ثانياً: الإحسان إلى الوالدين:
المسلم دائم الإحسان والبر لوالديه، يطيعهما، ويقوم بحقهما، ويبتعد عن الإساءة إليهما، قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الإسراء: 23).
ثالثاً: الإحسان إلى الأقارب:
المسلم رحيم في معاملته لأقاربه، وبخاصة إخوانه وأهل بيته وأقارب والديه، يزورهم ويصلهم، ويحسن إليهم، قال الله تعالى: (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) (النساء: 1)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه أن يُبْسَطَ له في رزقه (يُوَسَّع له فيه)، وأن يُنْسأ له أثره (يُبارك له في عمره)، فليصل رحمه» (متفق عليه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فَلْيَصِل رحمه» (رواه البخاري).
كما أن المسلم يتصدق على ذوي رحمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة» (رواه الترمذي).
رابعاً: الإحسان إلى الجار:
المسلم يحسن إلى جيرانه، ويكرمهم امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورِّثه» (متفق عليه).
ومن كمال الإيمان عدم إيذاء الجار، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤْذِ جاره» (متفق عليه)، والمسلم يقابل إساءة جاره بالإحسان، فقد جاء رجل إلى ابن مسعود فقال له: إن لي جارًا يؤذيني، ويشتمني، ويُضَيِّقُ عليّ، فقال له ابن مسعود: اذهب فإن هو عصى الله فيك، فأطع الله فيه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن حق الجار: «إذا استعان بك أعنتَه، وإذا استقرضك أقرضتَه، وإذا افتقر عُدْتَ عليه (ساعدته)، وإذا مرض عُدْتَه (زُرْتَه)، وإذا أصابه خير هنأتَه، وإذا أصابته مصيبة عزَّيته، وإذا مات اتبعتَ جنازته، ولا تستطلْ عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذِه بقتار قِدْرِك (رائحة الطعام) إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهدِ له منها، فإن لم تفعل، فأدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» (رواه الطبراني).
خامساً: الإحسان إلى الفقراء:
المسلم يحسن إلى الفقراء، ويتصدق عليهم، ولا يبخل بماله عليهم، وعلى الغني الذي يبخل بماله على الفقراء ألا ينسى أن الفقير سوف يتعلق برقبته يوم القيامة وهو يقول: رب، سل هذا -مشيرًا للغني- لِمَ منعني معروفه، وسدَّ بابه دوني؟
ولا بد للمؤمن أن يُنَزِّه إحسانه عن النفاق والرياء، كما يجب عليه ألا يمن بإحسانه على أصحاب الحاجة من الضعفاء والفقراء؛ ليكون عمله خالصًا لوجه الله تعالى، قال سبحانه: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة: 263).
سادساً: الإحسان إلى اليتامى والمساكين:
أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأيتام، وبشَّر من يكرم اليتيم، ويحسن إليه بالجنة، فقال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا»؛ وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا. (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» (متفق عليه).
سابعاً: الإحسان إلى النفس:
المسلم يحسن إلى نفسه؛ فيبعدها عن الحرام، ولا يفعل إلا ما يرضي الله، وهو بذلك يطهِّر نفسه ويزكيها، ويريحها من الضلال والحيرة في الدنيا، ومن الشقاء والعذاب في الآخرة، قال تعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ) (الإسراء: 7)، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف: 31).
ثامناً: الإحسان في القول:
الإحسان مطلوب من المسلم في القول، فلا يخرج منه إلا الكلام الطيب الحسن، يقول تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) (الحج: 24)، وقال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83).
تاسعاً: الإحسان في التحية:
وقد يستسهل البعض في أمر التحية ويحسب أنها هينة أو متروكة للإرادة إن أراد ألقى التحية أو ردها وإن لم يرد لم يفعل، في حين أن القرآن قد اهتم بها حفاظاً على خلق الألفة والمودة بين المسلمين بعضهم بعضاً، فقال الله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86)، وإلقاء التحية واجب، وردها بالحد الأدنى الذي هو مثلها واجب، ومن الإحسان أن يكون الرد بما هو أفضل منها.
عاشراً: الإحسان في العمل:
والمسلم يحسن في أداء عمله حتى يتقبله الله منه، ويجزيه عليه، فيقول الله عز وجل: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (رواه البيهقي وصححه الألباني).
جزاء الإحسان
المحسنون لهم أجر عظيم عند الله تعالى، قال عز وجل: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30).
وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس: 26)، وقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقّل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقرّ لأعينهم» (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة).
______________________
(1) سعيد بن علي بن وهف القحطاني، نور الإسلام وظلمات الكفر في ضوء الكتاب والسُّنة (الطبعة الأولى)، الرياض: مطبعة سفير، ص 10.
(2) محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (2001)، جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري) (الطبعة الأولى)، السعودية: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، صفحة 665، جزء 8، بتصرّف.