من يطلب معية الله كَسرٍّ من الأسرار في سكون الأسحار؟ ومن يرفضها؟
إجابتي التي أفهمها ملء ذهني، وأشعرها رائحة جائية بين حنايا صدري لا تشفي الغليل، فما أفهمه أن الأول: ذَكِيٌّ ذَهِن، تَقيٌّ فَطِن(1)، وما أشعره أن الثاني..!
ألم أقل لكم: إن إجابتي لا تشفي الغليل؟ فليسمع كلٌ ما يتراءى له من إجابة نفسه.
الأول ليس من بدٍّ أنه تتردد مع نبض قلبه الوصية الشريفة: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأبُ الصالحين قبلكم، وقربةٌ إلى الله تعالى، ومنهاةٌ عن الإثمِ، وتكفير للسيئاتِ، ومطردةٌ للداء عن الجسد»(2).
فيقف مع كلمة دَأْب، ويعلم أنها تعني عادة وسُنَّة، وشأن ودَيْدَن الصالحين، ويريد أن ينتظمه ركبُهم، ويَتَبصَّر العبارة الشريفة: «وقربة إلى الله تعالى»، ويحب أن يكون في معية الله، وبكل ما نملك من حبٍّ وصدق نسأل الثاني: وأنت ألا تريد أن ينتظمك ركبُ الصالحين؟ ألا تُحبّ أن تكون في معيَّة الله؟ نعلم أنك تريد، ونفهم أنك تحب! الله يدعوك إلى مائدته، وكذلك يفعل الشيطان، ولكن هل تُظهر الشياطين وجوهها؟ أبداً لا تفعل الشياطين، هل تُفصح الشياطين عن نيتها؟ أبداً لا تفعل الشياطين، فقط تحوم غربانها فوق رأسك وتسقطك في الغفلة، تُكَابِد في ألَّا تدعك تنهض، تُجَاهِد في بعثرة مشاعرك لأن المشاعر المبعثرة لا تمتلك عقلاً، لا تمتلك وطناً، أو عنواناً تلجأ إليه.
الله يدعوك إلى مائدته، إلى لملمة مشاعرك، إلى امتلاك عقلك، ونفسك، أن تأوي إلى كهفك، فإذا غَشِيَ الظلام، وأسدلت الأستار، حنَّتْ القلوب إلى ربها في الأسحار، وإنَّ أصدق ما في القلوب بوح ترفعه من أعماقها لربها في ليلها، فانتصح وتناول الدعوة من يده الشريفة، وأَوِ إلى الكهف يأتيك ربُّك من لدنه رحمة، ويهيئ لك من أمرك رشداً، انشد المظلات المريحة، والآمنة وسط لهاث هذا العالم، التي تتسع معانيها فَـتَرْكُل الشيطان، وتدحرجه الأذكار خارج قلبك، خارج بيتك، ثم تُعَـمِّرهما بنورها، وأمنها، وروحانيتها، وتمتد آثارها فتأخذ بيديك إلى الجنة بسلامها، آوِ إلى أوقات الأسحار.
فليكن الله، ثم الليل وأنت، وإياك أن تمرّ بك الليالي وأنت تعيش على ذكرى ليلة قمتها أو عدة ليال، تأمل في كلمات الحديث الحبيب صلى الله عليه وسلم يُوصِي المسلمين كـافَّة: «عليكم بقيام الليل»، وكفاك شرفًا أنك أحد المسلمين، ولئن كان الكل يحوي الجزء فعليك الوعي بأنه صلى الله عليه وسلم يوصيك بصفة خاصة: عليك بقيام الليل؛ فتَروّ مع كلمات الوصية النبوية، وبينها وخلفها، وبعقل فاقه، وقلب مفتوح، سائلها: لماذا ينصحك حبيبك بقيام الليل؟
ودعها تُجيبَك: إنه سُنَّة الصالحين من الأمم السابقة، وطريقتهم مع تسلسل الليالي الماضية بهم مع الله، فقم الليل ما دام قلبك وبدنك قادِرَين على قيامه، اهجر فراشك، وصُفَّ قدميك بين يديّ الله وحيدًا، وستشعر بأن الليل يحبك كوالدك، ويرأف بك كوالدتك عندما تطوف حولك نسمات، وهمسات الأسحار، لو كان فؤادك يحترق بذنبك، لو أنزلت عليه معصيتك جمرًا، لرطَّبته وطيَّبته صلاة الأسحار، فلئن كانت كما أوصاك بها الحبيب صلى الله عليه وسلم: «منهاةٌ عن الإثمِ، وتكفير للسيئاتِ»؛ فإنها سوف تُكْسِبَك معركتك مع الشيطان وأيامه، بل وساعاته ودقائقه، وستنهيك بكل يسر وبغاية السهولة عن إتيان الآثام، وستُعْلِمك بأن سعيك كمسلم خلف دين الله مناسب لك وعليك في كل وقت، ولكنَّ السَّحر وقت قيام الليل هو تاج كل الأوقات؛ لأن لزومه يَحْمِلك إلى ما لا يَحْمِلك إليه غيره من الأوقات، ففضلًا عمَّا فات فإنه يجعل قلبك، وعقلك، وجوارحك في صحة واتحاد على الدوام، يحملك إلى الصحة البدنية والنفسية، «ومطردةٌ للداء عن الجسد»، فقد صرَّحت بعض الآراء الطبيّة بأن قيام الليل يطرد الأمراضَ والأدْواءَ(3)، فهو حالة من شأنها إبعادُ الدَّاء المادِّيّ أو المعنَويّ عن الجسد سواء بسواء، لأن القيام في هذا الوقت يتأتى بسلامة الرُّوحِ، وصحة الجسد.
ونؤكد معنى أن لزوم الأَسْحَار يَحْمِلك إلى ما لا يَحْمِلك إليه غيره من الأوقات، فنستطرد: أنت لا تستطيع كشف طريقك في الضباب، ولكنك تكشفه تمامًا في الظلام وأنت قائم بين يدي الله تنهل من صفائه ونوره، ليس ملء كفيك فحسب، بل ملء قلبك وصدرك، وأيضاً بصرك لو فهمت أن الكثيرين يبصرون بعيون قلوبهم كما يبصرون بعيون وجوههم، ولئن كان هذا دأبك فستصل إلى نهاية الطريق بصحبة نورك وصفائك، استمع إلى الحسن البصري رحمه الله لمَّا سُئِل: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ فأجاب: لأنّهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره(4).
ويزيد خبر البصري نورًا إلى نوره خبر سعيد بن المسيب رحمه الله: إنّ الرجل ليُصلّي باللّيل، فيجعل الله في وجهه نوراً يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط، فيقول: إنّي لأحب هذا الرجل(5).
فعيون القلب هي من ترفع الستائر عن عيون الوجه، قف هنا إذا لم تستطع التمييز، ألا تحب أن يفتح الله قلبك ويملأه لك بالنور؟ يجيبك الإمام الشافعي، رحمه الله: من أحب أن يفتح الله قلبه، أو ينوره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه، واجتناب المعاصي، وأن يكون له خبيئة فيما بينه وبين الله تعالى من عمل(6).
ولئن رددت أنت سؤالًا بسؤالٍ: وما شأن قيام الليل؟
فسوف نعود إلى سؤالك: هل هناك عمل تُيَسِّرهُ طبيعته وتُكْثِرهُ من أن يكون خبيئة بينك وبين ربك أكثر من قيام الليل؟
سرّ خلف الإمام الشافعي رحمه الله وهو يأخذك إلى قلب هذا المعنى، وأنت تعي أن قيام الليل هو أيسر وأكثر(7) العبادات التي يتيسر لك أن تجعله خبيئة بينك وبين الله.
وسوف يخنق نورك ظلامك، بل سيخنق كل بلائك، فإذا كنت تبحث عمَّا يخنق البلاء حتى يُلْفِظَه أنفاسه، فإن الله عز وجل يدعوك إلى مائدته ثانية، والحبيب صلى الله عليه وسلم يمدُّ يده الشريفة إليك بالدعوة ثانية: «ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقول: من يدْعوني فأسْتَجيب له؟ من يسألني فأُعْطِيَه؟ من يستغفرني فأغفر له؟»(8).
فهل تُلبِّي؟ اِسْتمِع إلى الله بقلبك: «من يدْعوني فأسْتَجيب له؟ من يسألني فأُعْطِيَه؟»، ثم أسْمِعْهُ كل ما في قلبك، دع صوته يخرج ويعلو فوق أركان دنياك كلها، ويتردد في آفاقها: أشتاق إليك يا الله، فأشرق شمسك النورانية على عالمي، ناجِه سبحانه، تمنَّ عليه، اطلب منه، وأنت تعلم أنك تطلب من الله وليس من سواه؛ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (السجدة: 16).
تحدث معه وأنت تدرك أن كل حديث يدور بينك وبين غيرك على انفراد وشعرت بأنه حديث خاص فهو سر، فما بالك بعظمة الأسرار بينك وبين ربك في الأسحار؟ أسمعه صوت قلبك وهو يترنم بشكره وأنت ساجد له سجودًا يجعلك لا تخجل من صلاتك، وتتنفس براحة واستمراء في أيامك ولياليك، اشْك إليه بثك وحزنك، وأنت تَعِي أنك تكتمل، أجل فأنت بدون الصلاة المفروضة ليس مكتملًا، وإذا أردت أن يكون اكتمالك هو الأصوب، والأقرب من الاكتمال البشري؛ فقم الليل، سله عز وجل مغفرة الذنوب، سله كل مَهْوى لنفسك، ومُشْتَهى لقلبك، سله، ثم سله، ثم سله وسيستجيب.
وهنا يفرض نفسه السؤال: هل جمَّلَ قيام الليل دنياك، لمَّا جعل كل هذا من مزاياك؟
ولكأنِّي بالعزيز الثاني يلفظ الإجابة في كلمة واحدة: نعم.. وكأنها تنهيدة ممطوطة كانت لها جذور بأعماقه، ومن البديهي أن تتجاوز نظرته دنياه إلى أخراه، ويتساءل عنها مُشوّقًا مَلْهوفًا، فنقول: أنت تتقدم على طريق الصالحين تقدمًا يُقَربك إلى الله يومًا بعد يوم، ويومًا أكثر من يوم، فهل يتركك الله في هذا الاجتهاد دون مكافآت، تعلم أن كلًا يحصد ثمار ما يزرع، ولئن كان لنا الحق في قول ذلك فليس لنا الحق في تَطْمينك وقد فعل الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأعلمك بأنك ستدخل الجنة بسلام، يعني دون سابقة عذاب، أو مناقشة حساب، ففي وصية مشابهة جلَّى العاقبة التي نشتاف(9) إليها جميعاً ونشتاق؛ «يا أيها الناس، أفشوا السَّلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والنَّاس نيام، تدخلوا الجنَّة بسلام»(10).
عزيزي الثاني، ما أَنْفَس(11) دقائق الليل وأغلاها! فلا ترخصها بغفلتك، ولا تَـنْفِـس(12) بها على آخرتك، عُد بقلبك وعقلك إلى عمق زمن تجمَّل بالحبيب، تَخَيَّل وأحدَّ بصرك، غصّ في أدبك وأصخ سمعك، أتسمع الحبيب صلّى الله عليه وسلّم؟ «إنَّ في الجنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظاهِرُهَا من باطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا من ظاهِرِهَا»، أتسمع أبو مالك الأشعريُّ يسأل: لمن هي يا رسول الله؟ ويجيب صلى الله عليه وسلم: «لمن أَلَانَ الكلام، وأَطْعم الطَّعام، وباتَ للَّه قائمًا والنَّاسُ نِيَامٌ»(13).
فبت قائمًا والناس نيام، أعطِ كل الأهمية فقط لمستقبلك على طريق الله، لا تحمل في قلبك حبًّا أهمّ أو أكبر من هذا الحب، إنه الحب الذي يجعل دنياك تشعُّ راحة ونورًا، وأُخراك تشعُّ بما لا طاقة لنا على وصفه، فقط نذكرك بأن من المعينات على قيام الليل البعد عن المعاصي والذنوب، والإقلال من الأكل قبل النوم، نُذَكّرك فحسب وأنت أدرى بطريق الله، وأعلم بكيفية المُضي عليه، وكيف تفكر لغدك، غدك في قبرك، وغدك في بعثك، وغدك في حشرك، وغدك عندما يُنادِي مُنادٍ: «.. ثمَّ يقول: يا أهْلَ الجنَّة خُلودٌ فلا موت، ويا أهْلَ النَّار خُلودٌ فلا موت»(14).
قم الليلة، وليبارك عز وجل لك ليلتك، ثم تمتد بركاته سبحانه مع امتداد لياليك.
_______________________
(1) ذَهِن: ذَكِيّ، وفَطِن: حاذق وفاهم.
(2) حديث صحيح، صححه السيوطي في الجامع الصغير (5555)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4079).
(3) يُمكن جمع كلمة داء على أدواء كما في بعض المعاجم كالوسيط، ومُعجم اللغة العربية المعاصر، ويُعرف الداء بأنه المرض الظاهر أو الباطن، كما تُطلق هذه الكلمة على العيوب الظاهرة أو الباطنة أيضًا.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد، ومحمد بن نصر في قيام الليل.
(5) أرشيف ملتقى أهل الحديث، السلف وقيام الليل، ص490.
(6) المجموع شرح المهذب للإمام النووي (1/ 31)
(7) قيام الليل من أيسر الخَبَايا لأنه لا يكلفك شيئًا، هو فقط يتطلب منك أن تخزي شيطانك ثم تتوضأ وتقف بين يدي الله في السحر دون أن يراك أحد، ولئن شاركك أهلك وأولادك حلَّت على دارك بركات الله وصارت الخبيئة خبايا لكم جميعاً، ومن أكثر الخبايا لأنه يجود عليك بهذه السانحة العطرة الطيبة كل ليلة، ولا يبخل عليك بها في أي ليلة، هل سمعت عن ليلة مرَّت دون سَحَرِها.
(8) حديث صحيح: أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).
(9) نشتاف: أي نتطاول ونتطلع ونشتاق.
(10) حديث صحيح: أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2648)، ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا فيما بعد وقفة مع إفشاء السلام، وأخرى مع إطعام الطعام، وثالثة مع صلة الأرحام.
(11) أغلى.
(12) بخل به.
(13) حديث صحيح: أخرجه أحمد (6615)، والطبراني (14687)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (946).
(14) حديث صحيح: أخرجه البخاري (4730).