منحت روح القرآن للأمة دفعة معنوية وفكرية كبيرة، لا تقدر بأي معوض زمني ولا وضعي، أسهمت هذه الدفعة في تنظيم طاقات الأفراد والجماعة والمجتمع، وكان نتائج ذلك إنجازاً حضارياً استمر 10 قرون، عرف بحضارة الاستقامة «الحضارة الإسلامية»، استمدت منه الحضارة الغربية مقومات نهضتها العلمية، وهذا ما لا يخفى على أحد منصف أو غير منصف.
ورغم أن الأمة تمتلك طاقات بشرية كبيرة وواسعة ومتنوعة، فإنها لم تنتج الأمة مشروعًا ناجحًا -بعد أن تخلت عن القرآن- في أحوالها المعاصرة، ولم تستطع أن تتجاوز إشكالات التخلف والمرض والجهل، رغم استيرادها لوسائل التكنولوجيا الغربية، وتبينها للنظم العلمانية في الثقافة والتعليم على مدى أكثر من قرن من الزمان، والسؤال هنا: لماذا لم تنتج الأمة هذا المشروع خلال تبنيها للنظم الوضعية خلال قرن من الزمان؟
والإجابة: لأن الأمة فقدت حيويتها، وذلك بإبعادها روح القرآن ورفعه من حركتها وعمرانها، ذلك الوقود المشغل لحيويتها، والموجه لمسيرها، والمقوم لحركتها، والمعين في عثرتها، ولجأت عن رضا أو جهل أو قهر مصنوع باستدعاء النماذج الوضعية في استلهام هدايات الفكر والوجدان والسلوك والنظم، فما وجدت خيرًا، فظلت في تصنيف العالم الثالث، لا تقوى أن تتقدم شبرًا واحدًا؛ لأن النموذج الغربي قد قسَّم العالم، وقدر أقدار الأمم التي تدور في فلكه في ظل منظومة تقوم على التبعية والاحتكار والانقياد، لا المنافسة أو المشاركة أو الندية والتكافؤ أو الكرامة الإنسانية.
إن القرآن الكريم هو منبع تلك الحيوية للأمة ووقودها ودفعتها التي لا مثيل لها، هذه الروح القرآنية التي تحققت في ظلها نقلات الأفكار الكبرى في عالم الحضارة، ومنحتها القوة بما تحتويه من طاقة علوية تتشابك مع طاقة الأرض في الإنسان فتتحقق اللحظة الدافعة للأمة وتنجز حضور الأمة وشهودها على الناس، أما مع غياب هذه الروح القرآنية، فقد استلبت من الطاقة النفسية للأمة حيويتها كاملة، واستلمت قواها واستسلمت لمعوضات زمنية لا تشبع أو تغني من شيء، وتبددت قواها وصرفت في غير موضعها وفي غير رشدها.
هدر الجهد الفكري الإسلامي
ترتب على انطفاء حيوية الأمة وتبديد طاقتها وصرفها في غير موضوعها هدر الجهد الفكري والبحثي الكبير في واقع المختبرات والبحوث في المؤسسات الأكاديمية والبحثية وغيرها، حيث انطلقت من نماذج مغايرة لواقع الأمة لحل إشكالات الأمة والواقع أنها لحل مشكلات مستوردة لا تمت إلى واقع الأمة بشيء، ولم تلتفت إلى القيمة المعرفية والفكرية الكبرى للقرآن الكريم فوقع العقل البحثي المسلم في حيرة الانتماء والنموذج المعرفي المتبنى واتسعت الفجوة بينه وبين الواقع الذي يعيشه.
لقد أحدث القرآن على مستوى العقل البشري ثلاثة نقلات فكرية كبرى(1)، الأولى: النقلة التصورية الاعتقادية وتتضمن القيم التصورية، كالربانية والشمولية، والتوازن، والتوحيد، والحركية، والإيجابية، والواقعية التي تداخلت مع بعضها وشكلت نسقًا فكريًا فريدًا، والثانية: النقلة المعرفية، وتبدو في التحول المعرفي للعقل بمده بما يمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، والثالثة: النقلة المنهجية، التي أتيح فيها للعقل المسلم أن يتحقق بها، وأن يتشكل وفق مقولاتها ومعطياتها التي امتدت باتجاهات ثلاثة، هي: السببية، والقانون التاريخي، ومنهج البحث الحسي (التجريبي).
أنتج العقل المسلم في ضوء هذه التحولات ثورة في مجال العلوم والمعارف الكونية والإنسانية، استمر عطاؤها ما يقرب من 10 قرون كاملة، وقامت على عطائها الحضارة الغربية الحديثة عندما استلمت المنهج التجريبي من الحضارة القرآنية وانسلت عن بُعد السماء فيه، ولم يستطع الباحثون المسلمون في القرنين الماضيين من استئناف حركة الحضارة القرآنية مرة أخرى.
إننا نرد عدم القدرة أو الاستطاعة للجهد البحثي الإسلامي إلى إبعاد القرآن عن مناهج البحث الأكاديمي لا سيما في العلوم الاجتماعية الذي أخرج لنا باحثين بلا هوية، متأرجحين لا هم مع هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فاقدي الطموح الحضاري، طموحهم الوحيد الحصول على شهادة أو درجة علمية يسبقون بها أو إليها، بطرق مشروعة أو غير مشروعة، حيث لم يتسلل إلى عقولهم وقلوبهم النهج المعرفي القرآني، ولم يستطيعوا اكتشاف قيمة القرآن المعرفية والعلمية.
يعتمد العمل البحثي في مجال العلوم الاجتماعية على ثلاثة مسارات؛ الأول: العمل تحت سطوة المنهجية الغربية وأدواتها عن وعي وقصد واعتقاد والرغبة في التمكين لتلك المنهجية في المشهد الأكاديمي الجامعي، وقد تحول البحث الاجتماعي عند هذا الفريق إلى ما يشبه الدبلجة لأعمال أصلية؛ أي صدى صوت للمنهجية الغربية، وليست صوتًا عربيًا إسلاميًا يمكن أن يقدم معرفة جديدة لحل إشكالات المجتمع.
أما المسار الثاني: فيعتمد على العشوائية واللامنهجية ويحكمه التقليد والمحاكاة العمياء للدراسات والبحوث السابقة أيًا كانت منهجيتها ومرجعيتها، دون الوعي بالنموذج المعرفي الذي يقف خلف تلك الدراسات والبحوث وتصدر عنه، وتداعياته على العقل البحثي العربي والمعرفة المتولدة عنه.
ويتمثل المسار الثالث في التماهي مع التراث وتقديم الآراء البشرية على القرآن الكريم المرجعية الأصل لكل الفكر الإسلامي، فتحول هذا التماهي مع التراث إلى تقديم البحث العربي الإسلامي في صورة وعظية لا تستطيع تقديم حلول حقيقية لا لمشكلة البحث ولا للمشكلات الاجتماعية ولا لمنهجية العلم، وذلك لأنها تناقش مشكلات جديدة بمنهجية قديمة ارتبطت بواقعها المكاني والزماني والفكري.
في ضوء هذا الفقد وهذا العجز للجهد البحثي الإسلامي، فقدت العلوم الاجتماعية العربية الإسلامية القدرة على تقديم حلول صادقة لمشكلاتنا المجتمعية، بل ومشكلات العالم المعاصر، وفشلت في الوقت ذاته في صياغة إنسان الحضارة، وبقي الباحث في أمتنا يدور إما في فلك التبعية أو الفقر العلمي المدقع أو كلاهما معًا، فلا تجد باحثاً يبدع في إنتاج معرفي أو يشيد فكرة دافعة للواقع والمجتمع، لأنه بالأساس إما أنه يتخبط في عشوائية معرفية أو علمية، أو أنه يستند في تفكيره إلى مرجعية تغاير مرجعية مجتمعه وأفكار تغاير أسس مجتمعه ومبادئ تناقض مبادئ هويته وأمته وكل هذه -المرجعية والفكرة والمبدأ الاجتماعي- أصولٌ في البحث الاجتماعي الذي يضطلع بالأساس نحو تقديم حلول لمشكلات المجتمع، أو بناء صياغات للإنسان تلائم التطور والتقدم الحادث أو المأمول في مجتمعه، لكن طرفي التبعية والفقر العلمي للباحث أفقدنا مثل هذه الحلول وتلك الصياغات.
ما نود التأكيد عليه للعقل البحثي العربي الإسلامي أن نجاح الأفكار المستعارة في بيئتها لا يعني نجاحها في بيئات أخرى، بل ربما يكون هناك استحالة للتطبيق، أو حياة تلك الأفكار حين ننقلها أو ننتزعها من سياقها الاجتماعي والحضاري إلى سياق اجتماعي وحضاري مختلف، فضلًا عن آثارها النظرية والعملية المتوقعة حيث إنها تؤدي إلى عطالة فكرية بالاعتماد على فكرة الاستيراد للأفكار الجاهزة والبرامج المعدة في الخارج.
إن الأفكار المستعارة لا نستطيع تطبيقها في سياق حياتنا، وإنما نقلدها في الصورة التي يطبقها فيها غيرنا في حياته، وهذا يجعلنا نزهد في استخدام كل إمكانياتنا في بناء اقتصادنا، لأننا نريد أن نقلد اقتصاد الآخرين كما يضعونه بوسائلهم الخاصة المتطورة التي ليست في متناولنا في مرحلة تطورنا، وهكذا يضيع علينا بعض إمكانياتنا حين لا ندرك قيمتها وراء الكلمات التي أولى بها الاختصاصي الذي خطط لنا، وهكذا يضيع الوقت أيضاً(2).
إن الأفكار المستعارة وإن كانت ناجحة في بلدانها الغربية، فهذا النجاح مشروط بالظروف النفسية والاجتماعية التي نشأت فيه ونبتت في بيئته، إن الإطار الثقافي والوسط الاجتماعي الذي تلتقي فيه أفكار المجتمع من ناحية ونشاطاته المحلية لاحتياجاته من جهة أخرى فتخرج أفكار النهضة، إنه بعد الخصوصية الحضارية الذي غاب ويغيب عن رؤى المستوردين لهذه الأفكار.
إن جميع أنواع الحلول ذات الصيغة الاجتماعية التي نقتبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها صلاحيتها، هي صحيحة في هذه البلاد على وجه التأكيد، ولكنها تقتضي عند التطبيق في بلادنا عناصر مكملة لا تأتي معها، ولا يمكن أن تأتي معها، لأنه لا يمكن حصرها، ولا يمكن فصلها عن المحيط الاجتماعي في بلادها؛ أي لا يمكن فصلها عن روحها(3).
_______________________
(1) انظر: عماد الدين خليل، إعادة تشكيل العقل المسلم.
(2) مالك بن نبي، تأملات، ص55.
(3) مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، ص103.