الإسلام أمل الإنسانية الوحيد في تحقيق السلام الشامل في الوجود كله، وهو سلام الضمير، وسلام الأسرة، والمجتمع، والسلام الإقليمي والدولي، والسلام بين الإنسانية كلها، والعالم أجمع، وقد أنزل الله عز وجل الإسلام لهدفين اثنين؛ الأول: تحقيق العدل في دنيا الناس للبشرية كلها، فالظلم حرام في الإسلام بلا استثناء، فظلم المسلم أو غير المسلم حرام، والهدف الثاني: تحقيق السلام في كل أركان هذا العالم.
وفي هذا البحث، سنبين منهج الإسلام في صناعة السلام العالمي، ولن نعرض للحديث عن سلام الضمير والأسرة، والمجتمع، فلهذا حديث آخر.
وما نود التأكيد عليه في البداية، أن الإسلام دين جاء ليحقق السلام للناس أجمعين، وليس للمسلمين، كما يتوهم الغافلون، وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية الرفيعة التي ترنو إليها الإنسانية عبر التاريخ، ولم يتحصل لها منها إلا السراب والأوهام، ولم تجن البشرية إلا الحروب والخراب والدمار، وجاء الإسلام ليحقق للبشرية حلمها الذي حرمت منه في كل زمان ومكان، ومن أجل تحقيق ذلك فرض الإسلام واجبات، وشرع ضمانات للوصول بالبشرية إلى هذه الغاية النبيلة، ومن هذه الواجبات والضمانات، ما يلي:
1– المساواة بين الناس جميعاً.
2– علاقة المسلمين بغيرهم تعاون وتحاور لا تصادم وتقاتل.
3– مقصد الإسلام تحقيق العدل والحرية لكل الإنسانية.
4- السلام أصل العلاقات الدولية في الإسلام.
5- تشريع الجهاد لمنع الظلم والعدوان ونشر السلام.
6- أسباب الجهاد في الإسلام.
7- المفاوضات والتحكيم.
8- احترام المعاهدات.
9- تحريم القتل والإيذاء للإنسان والحيوان.
10– الجزية سبق حضاري إسلامي.
11– من ضمانات السلام في الإسلام وجوب حب الإنسان.
12– من مآثر المسلمين ومجازر غير المسلمين.
ولنعرض الآن بشيء من التفصيل لسبل الإسلام لتحقيق السلام العالمي.
أولاً: المساواة بين الناس جميعاً:
لقد كرم الله عز وجل الإنسان، وسخر له كل ما في الكون، وجعل كل المخلوقات في خدمته، أمارة وعلامة على تكريم الله تعالى للإنسان، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70).
ولكن، هل هذا التكريم لجنس دون جنس، أو لأمة دون أمة، بالقطع لا؛ لأن الإسلام اعتبر الناس جميعاً أمة واحدة، بل أكثر من ذلك، فالإسلام يعتبر الناس جميعاً أسرة واحدة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1).
فالإسلام لا يعتبر المسلمين شعب الله المختار، ولا يعدهم أفضل من غيرهم من البشر، فالناس جميعاً أمة واحدة، بل أبناء رجل واحد هو آدم أبو البشر؛ وبالتالي البشر كلهم إخوة في الإنسانية، بلا أدنى فرق باعتبار لون أو جنس أو دين أو غنى أو فقر، وإذا كان اليهود يحسبون أنفسهم شعب الله المختار، وأنهم سادة البشر، وغيرهم عبيد لهم، فهذا أمر محرم في الإسلام، لأنه يبعث على الظلم والعدوان.
وهنا قد يقول قائل: إن هذه شرذمة قليلة، شاذة في الفكر والسلوك، أما البشرية فقد ارتقت عن كل هذه العنصرية واعتبرت الناس جميعاً أمة واحدة، لكن قوانين الأمم المتحدة ما زالت حتى اليوم تفرّق بين الأبيض والأسود، وما زالت تعطى حق الاعتراض (الفيتو) للرجل الأبيض وتحرم منه الرجل الأسود، فهذا التفريق بين البشر يحرم الأمم المتحدة من القيام بواحد من أهم أدوارها التي قامت من أجلها وهو الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وما زالت البشرية عاجزة حتى يومنا هذا من التسوية بين الناس حتى ولو نظرياً، وقبل أكثر من 1400 عام صرح القرآن الكريم بأن الإنسانية أمة واحدة، والناس جميعاً أسرة واحدة قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213).
فالإنسانية كانت أمة واحدة، وحين ضلت الطريق أرسل الله عز وجل لهم الرسل، ليأخذوا بأيديهم من الضلالة إلى الهداية، ومن الغواية إلى الاستقامة، فمن تبع الرسل فقد هدى، ومن عصاهم فقد ضل وهوى، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الخلاف بين البشر سُنة كونية، وحقيقة لا مفر منها، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود).
وقد جعل رب العالمين هذا الخلاف للتكافل والتعاون لا للتقاتل والتصادم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13).
وبالرغم من هذا الخلاف، فالبشر كلهم سواء في نظر الإسلام، والناس جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات، حتى وإن اختلفت الألوان والأعراق والأجناس، فالناس جميعاً من نفس واحدة.
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في أحاديث كثيرة، فقال عليه الصلاة والسلام محذراً من العصبية: «دعوها فإنها منتنة» (متفق عليه)، وقال: «كلكم لادم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم» (رواه الأزرقي في أخبار مكة)، وروى أبو داود عن جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية».
فالإسلام يحارب كل أشكال التعصب للأقوام، أو الأجناس، أو الأعراق؛ كي يسود العدل، ويعم الأمن والود والتعاون بين الإنسانية كلها.
ولكن، هل معنى ذلك ألا يحب الإنسان بلده؟ أو لا ينتمي لوطنه؟ بلى.. إن حب الأوطان من الإيمان، ولكن الإسلام يحارب التعصب الذي يبعث على الظلم والتفاخر، والتعدي على الآخر، عن سراقة بن مالك، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم» (رواه أبو داود، والطبراني في الصغير، والبيهقي في الشعب)، وعن واثلة بن الأسقع، سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؛ قال: «لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم».
فالإسلام يدعو إلى حب الأوطان، والتفاني في رفع شأنها، وإصلاح حالها، ورقي أهلها، وتطوير أمورها، لكن الإسلام يحارب التعصب الذي يبعث على الظلم والتفاخر والتناحر.
وهكذا يتضح بجلاء من نصوص القرآن الكريم والسُّنة المطهرة أن دين الإسلام يعتبر الإنسانية كلها أمة واحدة، بل أسرة واحدة، لا فضل لأبيض على أسود، ولا لجنس على جنس، بل كل بني آدم سواء، وهذه واحدة من وسائل الإسلام لصناعة السلام العالمي.