الإنسان هو أهم مستهدفات المشروع الإسلامي من حيث تصحيح اعتقاده، وتقويم سلوكه، وتهذيب أخلاقه، وترقية حياته، ولا يتم ذلك إلا بالإنسان نفسه؛ وهو ما يفرض وجود رؤية لإدارة الموارد البشرية والطبيعية، وإنشاء تخصصات تتنوع فيها الخبرات وتتكامل، وتكون قادرة على النهوض بالعبء الكبير في إقامة الدين وإصلاح الدنيا.
إن الرؤية الإسلامية يتكامل فيها النظر للآخرة والنظر للدنيا، فالدنيا ما هي إلا جسر ومزرعة للآخرة؛ لذا لا فرق بين العلوم والتخصصات، ما دام القصد والنية خالصين لله تعالى، فعلوم الدنيا والتمكن من دقائقها والإمساك بمفاتيحها وصولاً إلى تكوين المَلَكة والإبداع نوع من الفرائض الدينية، تسمى بـ«فروض الكفاية»، تلك التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وقد تكون لبعض الناس فرض العين، لقدرته على النهوض بها.
هناك رؤية محدودة تقصر فروض الكفاية على صلاة الجنائز، لكن المفهوم أوسع من ذلك، ويشمل وجوب تخصص نفر من المسلمين في العلوم والمهارات المختلفة وإتقانها إتقاناً تاماً لتحقيق الكفاية في هذا المنحى، وتلك رؤية ملازمة للإسلام منذ أيامه الأولى، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصطحب معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه أثناء طوافه على وفود القبائل التي جاءت للحج، وكانت ميزة الصِّدِّيق تتمثل في المعرفة التامة بأنساب العرب، فكان أعرف بأنساب القبائل من أبناء القبائل أنفسهم، حيث كان متخصصاً بارعاً في الأنساب لا يضاهيه أحد.
وجوب تخصص نفر من المسلمين في العلوم والمهارات المختلفة وإتقانها لتحقيق الكفاية
وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الميزة وهذا التخصص، عندما أمر الشاعر الكبير حسان بن ثابت أن يجلس مع أبي بكر قبل أن يبدأ في هجاء قريش، وقال له، كما جاء في صحيح مسلم: «لا تعجل، إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي».
وتشير كتب السِّيَر والرجال إلى أن التخصص عرف طريقه للصحابة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلم الناس بالسوق وبالتجارة والاقتصاد، وكان يقول: «من أراد أن يسأل عن المال فليأتني، إن الله جعلني خازناً وقاسماً»، وكان عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه أعلم بالقضاء، وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه كاتب الوحي، ويتقن السريانية ويكتب بها، وكان أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه أعلم بقراءة القرآن، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام، وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه أعلم الناس بالشؤون العسكرية.
ونقف هنا عند ملمح مهم في احترم الصحابة الأوائل للتخصص، والنظر إلى أهمية الاستفادة من البارعين فيه، فقد كتب الخليفة أبو بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إبان فتوح الشام، رسالة بإسناد قيادة الجيش إلى خالد بن الوليد، رغم أن أبا عبيدة هو الأسبق بالإسلام، جاء في الرسالة: «أما بعد، فقد وليت خالداً قتال العدو في الشام، فلا تخالفه واسمع له وأطع، فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه وأفضل ديناً، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد».
وقد تحدث فقهاء الإسلام ومفكروه عن أهمية وضرورة التخصص، وأن تُحقق التخصصات اكتفاء وكفاية للمجتمع المسلم، فنجد الإمام القرطبي، في تفسيره، يجعل الزراعة من فروض الكفاية، ويوجب على الحاكم إجبار الناس عليها لتحقيق الكفاية، فيقول: «والزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وما كان في معناها، من غرس الأشجار»؛ أي لا بد من إدارة الموارد البشرية والطبيعية بشكل فعال يتيح استثمارها وتنميتها لتحقق الكفاية.
وكان العلَّامة الشافعي بدر الدين محمد الزركشي يرى أن تصنيف الكتب من فروض الكفاية، وأنه لا بد من تخصص البعض في التأليف، معتبراً إياها من فروض الكفاية، فيقول: «تصنيف الكتب لمن منحه الله فهماً واطلاعاً، ولن تزال هذه الأمة، مع قصر أعمارها في ازدياد وتَرقٍ في المواهب، والعلم لا يحل كتمه، فلو ترك التصنيف؛ لضيع العلم على الناس»، لذا كان الجاحظ يقول: «القلم أبقى أثراً».
وتحدث الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه «إحياء علوم الدين»، عن أهمية التخصص في الصناعات والتجارات المختلفة، فيقول في باب «آداب الكسب والمعاش»: «أن يقصد القيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعات والتجارات لو تركت بطلت المعايش، وهلك أكثر الخلق، فانتظام أمر الكل بتعاون الكل، وتكفل كل فريق بعمل، ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا»، وعلى هذا حمل بعض الناس قوله ﷺ: «اختلاف أمتي رحمة»؛ أي اختلاف همهم في الصناعات والحرف.
التخصص البحثي الدقيق يساهم في القفزات العلمية فقد نُشر 64 مليون بحث منذ 1996م
وكتب سيد قطب عام 1952م، في كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية»، مؤكداً تعميق الخبرات، الاستفادة من الموارد، وأن ذلك من صميم الإسلام، لأن واقع الإسلام كأصوله النظرية لا يعترف إلا بالكفاية الخاصة فيقول: «إن حكم الإسلام لن يدع الدراويش يتدروشون، ولا مشايخ الطرق يعيشون على النذور، إن الإسلام يطالب كل فرد أن يعمل عملاً ليأجره عليه أجراً، فلا أجر بلا جهد، ولا جزاء بلا عمل، والصلوات والدعوات عبادة شخصية وليست عملاً اجتماعياً».
ثم نراه في رسالته «أفراح الروح» يقول: «نحن في حاجة ملحة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة، ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لا بشعور التضحية فحسب؛ بل بشعور اللذة كذلك، شعور العابد الذي يهب روحه لإلهه وهو فرحان».
أما الشيخ محمد الغزالي، في كتابه «الجانب العاطفي من الإسلام» فيقول: «إن مهنة صيدلي، أو مهنة طباع، فرائض على المجتمع الإسلامي كالصلاة والصيام سواء بسواء، غاية ما هناك من فرق أن الصلاة والصيام لا يتخلف عن أدائها أحد، أما فروض الكفاية فيختار لها من يصلح لها، فليس الإحسان تجويد جزء من العبادات وإهمال أجزاء أخرى قد تكون أخطر وأجل، وإنما الإحسان أداء فروض العين وفروض الكفاية، وتناول شؤون الدنيا وشؤون الآخرة معاً، هو إشراب الحياة الإنسانية حقائق الأمر الإلهي، وإضفاء صبغة السماء على أحوال الأرض، هو ترقية كل عمل بذكر الله فيه، لا الفرار من الأعمال بدعوى ذكر الله في العراء».
التخصص سبيل للانطلاق
وعالمياً، يُنشر أكثر من مليوني ونصف مليون مقال ودراسة علمية متخصصة سنوياً، استحوذت الصين على 21% منها، وهذا ما يؤكد أن التخصص البحثي الدقيق يساهم في القفزات العلمية، وتشير الإحصاءات إلى أنه تم نشر حوالي 64 مليون بحث علمي متخصص منذ عام 1996م حتى الآن، وحسب الإحصاءات، فإن عدد المجلات العلمية المتخصصة تقدر بـ46736 مجلة أكاديمية، تحتل اللغة الإنجليزية 75% منها، ويوجد في بريطانيا 5856 مجلة، وفي الولايات المتحدة 5712 مجلة، وفي إيران 223 مجلة، وفي تركيا 209 مجلة؛ أي نسبة المسلمين ضئيلة للغاية في تلك المجلات.
وتشير دراسات حول أهمية المجلات المتخصصة في ازدهار الطب، فمعظم الدراسات الطبية الرائدة التي غيّرت في المجال الطبي، نشرت في مجلات طبية متخصصة؛ لذا زاد عدد تلك المجلات إلى 28 ألف مجلة، تنشر 1.8 مليون بحث سنوياً.
ومن هنا، فالتخصص ذو علاقة وثيقة بالإنجاز والإبداع والإتقان، ويرتبط بمفهوم تقسيم العمل، فمع التخصص يتم تقسيم العمل؛ بحيث يتولى كل فرد مسؤولية محددة، ويعمق معرفته بها، وهو ما يوفر الوقت والجهد والإمكانات، ويتيح ظهور ما يسميه علماء التربية بـ«المَلَكة»، وهو تواؤم وتناغم الاستعداد الفطري مع التأهيل العلمي والخبراتي، فالامتزاج بين ذلك المكون الفطري مع الإمكانات البيئية طريق موصل إلى النضج والإبداع، وكما يقول الراحل د. أحمد زويل، الحائز على «نوبل»: إن التخصص أساس التميز في عصر العلم.