ها قد وصلنا إلى نهاية البحث، وقبل أن نستعرض الخلاصات والنتائج، نعرض المحاولة العلمية المهمة في ذلك العمل البحثي الكبير الذي أنجزه رجل القانون المستشار د. عبدالرزاق السنهوري، وأصل هذا العمل أطروحة علمية بعنوان «فقه الخلافة وتطوّرها لتصبح عصبة أمم شرقية»، تقدم بها عام 1926م لجامعة السوربون الفرنسية، لنيل درجة الدكتوراة في العلوم السياسية.
فقه الخلافة
انتبه المستشار د. عبدالرزاق السنهوري إلى أن سقوط الخلافة الإسلامية لا يمكن أن يعني في الذهنية الإسلامية انتهاء وتجاهل فقه الخلافة، بحجة تعدد الدول في المجال العربي والإسلامي، وقيامها على أسس قومية ووطنية، وإنما ينبغي تطويره وإثراؤه؛ لأن العالم الإسلامي إذا عجز عن إقامة دولة كبرى موحدة تمثله على الصعيد الدولي؛ فإن المادة الفقهية والدستورية لنظام الخلافة من شأنها أن تساعد المنظمات الأهلية، التي تتطلع للقيام بدور حيوي، ربما يُعدّ في أصله من صميم عمل مؤسسة الخلافة الإسلامية.
السنهوري: الوحدة الأممية الإسلامية نابعة من مبدأ راسخ كونها فريضة مؤكدة في عقيدتنا وشريعتنا
فعدم وجود دولة موحَّدة تمثل الأمة الإسلامية لا يبرر بحال من الأحوال إهمال هذا الجانب النوعي المهم من منظومة الفقه الدستوري الإسلامي، وإنما ينبغي للعقل المسلم أن يستمر في تطويره، كي يستجيب في صيرورته المطردة، لاحتياجات الأمة الإسلامية، وهي تحث الخطى باتجاه تحقيق وحدتها، واستعادة مكانتها الدولية.
ويبدو أن السنهوري كان مهموماً بحال الأمة الإسلامية، وهو ما يزال طالباً دون بلوغ سن العشرين من عمره، وكان يتابع أخبار الهجمة الغربية على الخلافة العثمانية، التي لم تكن سوى مقدمة لتمزيق أوصال العالم الإسلامي، وقد سجل في مذكراته -كما تذكر كريمته د. نادية عبدالرزاق السنهوري رحمة الله عليها- أيام الحرب العالمية الأولى قوله: «كنتُ أحلم صغيراً بالجامعة الإسلامية، وكنتُ أتعشقها، ولم تكن أمامي إلا رمزاً لحقيقة مبهمة، خالية من كلّ تحديد ووضوح»؛ كما سجل هذه الأبيات التي تنمّ عن توجّهه الوحدوي الذي أفصح عنه:
أأرضى أن أنام على فراشٍ ونوم المسلمين على القتاد
وأهنأ في النعيم برغدِ عيشٍ وقومي شُتتوا في كلّ واد
فلا نعمتْ نفوسٌ في صفاءٍ إذا نسيتْ نفوساً في الصفاد(1)
ينطلق العمل العلمي الذي قدّمه د. السنهوري من مسلَّمة، مفادها أن الوحدة الأممية الإسلامية نابعة من مبدأ راسخ، يتمثل في كون الوحدة فريضة مؤكدة في عقيدتنا وشريعتنا، لأنها صنو عقيدة التوحيد، أو هي وجهها الثاني؛ وعليه، فإن هذا المبدأ قائم وموجود طالما بقيت عقيدة التوحيد، بل إن وحدة الأمة الإسلامية بهذا الاعتبار هي حقيقة واقعة ومسلَّمة من المسلَّمات الراسخة في المرجعية الإسلامية، ولكن هناك عوامل داخلية وخارجية قد أوهنتها وأضعفتها، وأخرت مسيرتها.
النبهاني: تنصيب الخليفة فرض حتمي على المسلمين حسب الشرع والعقل لإقامة الحدود وسدّ الثغور
وبناء على ذلك، فإن مهمة أجيال الصحوة الإسلامية المعاصرة ينبغي أن تنصبّ على تجديد مشروع وحدة الأمة، وجعله أساساً راسخاً لنهضة شاملة، تستهدف تفعيل عناصر القوة في الأمة الإسلامية، وتأمين مستقبلها السياسي والحضاري، باعتبارها مجموعة من الشعوب والقوميات المتضامنة، المستظلة براية الإسلام، المعتزّة بانتمائها وهُويتها الحضارية.
ويرى السنهوري أن إقامة الحكومة الصحيحة لإدارة شؤون المسلمين التي يفرضها الإسلام ليس من شروطها أن تنحصر في نظام الدولة الموحدة الذي وجد في عهد الخلفاء الراشدين المهديين؛ لأن الخلافة ليست نظامَ حكمٍ جامدٍ من حيث شكله، بل هي نظام مرن يمكن أن يتطور شكله ليتلاءم مع الظروف الاجتماعية، فقد قامت الحكومة الصحيحة الراشدة على أساس شوري نيابي لصالح المحكومين؛ لأن الحكم مسؤولية وتكليف أكثر منه سلطة وسيطرة(2).
ثم وضّح بأن النأي عن قاعدة أو أسلوب الحكم الراشد في واقع المسلمين يُعتبر حكماً ناقصاً، وبالتالي فهو وضع استثنائي ينبغي تغييره، وأن المسلمين يجب أن يتعاونوا على إقامة الصورة الجديدة للخلافة الصحيحة، وأن الأوضاع الفاسدة لا يصحّ أن تعوق تطوّر ونمو الفقه الدستوري والسياسي الإسلامي، وأن هذه الأوضاع الناقصة أو الفاسدة برغم سيطرتها على العالم الإسلامي، لمدة زمنية طويلة، ظلت في نظر الشريعة الإسلامية وفي قوانينها العامة، مجرد حالة استثنائية(3).
وجوب تنصيب خليفة
ومن أشهر وجوه الخطاب الإسلامي المعاصر -بعد مفكري جماعة الإخوان المسلمين- تنظيراً واهتماماً وتفكيراً في قضية الخلافة الإسلامية والدولة التي تمثل جامعة المسلمين السياسية، الشيخ تقي الدين النبهاني، مؤسس حزب التحرير، وبالرجوع إلى أدبيات هذا الحزب ورسائل ومؤلفات الشيخ النبهاني، يتضح لدى الباحث أن القضية المركزية لهذا الحزب إنما هي قضية الخلافة الإسلامية، والأسباب التي أدت إلى سقوطها، والعوامل التي يجب على المسلمين تفعيلها في واقعهم من أجل استعادتها.
يقول الشيخ النبهاني: «إن تنصيب الخليفة واجب على المسلمين وفرض حتمي حسب الشرع والعقل؛ لأن ما هو واجب من إقامة الحدود وسدّ الثغور لا يتمّ إلا به، ولأن الحكم بما أنزل الله لا يكون ولا يُنفذ إلا بوجوده، ولأن جلب المنافع للأمة ودفع المضار عنها لا يتأتى إلا بوجوده، ولذلك كان حكم نصب الخليفة واجباً بالإجماع، فقد أجمع الصحابة على تأخير دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، حتى بويع خليفة لرئاسة الدولة»(4).
الأئمة الأربعة: الخلافة فرضٌ وعلى المسلمين أن يعيّنوا قائداً ينفّذ أحكام الدين وينصر المظلومين
ويربط الشيخ النبهاني بين دولة الخلافة وسلطاتها، ورسالة الأمة الإسلامية الرئيسة، التي كلفها الله تعالى بتبليغها، كما شرّفها بالانتساب إليها، وهي رسالة الدعوة إلى الإسلام، فيستتلي قائلاً: «المسلمون مكلَّفون حسب الشرع بتبليغ الإسلام، وحمل الدعوة الإسلامية لا يكون إلا عن طريق الدولة، لأنها هي التي تملك القوة التي تحمي هذه الدعوة، وتزيل الحواجز المادية التي تقف في سبيلها، لذلك كان قيام الدولة الإسلامية من ألزم الواجبات على المسلمين جميعاً»(5).
إنّ ما يمكن أن نستنتجه أو نلاحظه أن معظم أصحاب هذا التوجه يركزون على استثمار الواقع الذي يسود العالم الإسلامي، وتفعيل الأفكار الإيجابية في هذا الواقع، ولذلك فإن هذا التوجه يقدم أفكاراً نابعة من واقع الأمة الإسلامية، وهذه الأفكار في عمومها منبثقة عن فهم صحيح وتشخيص سليم للأوضاع العامة السائدة في الأمة وعلاقتها بالارتباطات الخارجية.
ومن أهم تلك الأفكار اقتراح عدد من الصيغ أو الأشكال الوحدوية، وأيضاً تطوير الهيئات والمنظمات القائمة كي تتكفل ببعض واجبات وصلاحيات الخلافة الإسلامية أو وحدة المسلمين السياسية، إلى جانب الاستمرار في تطوير فقه الخلافة؛ لأن هذا الفقه لا يقتصر دوره على وجود دولة الخلافة.
ومن الأفكار المهمة لأصحاب هذا التوجه، أنهم لا يؤمنون بصورة واحدة لنظام الخلافة أو الوحدة السياسية للمسلمين؛ لأن العبرة عندهم تكمن في الأبعاد والمضامين لا في الأشكال الموروثة من التاريخ الإسلامي.
خلاصات ونتائج:
نصل في نهاية هذا البحث إلى استخلاص النتائج الآتية:
1- يوجد اتفاق بين المنتمين إلى الخطاب الإسلامي والفكر الإسلامي المعاصر عموماً بشأن قضية وحدة الأمة الإسلامية في جميع أبعادها؛ لأنها قضية ثابتة بالأدلة القطعية، فقد نقل الذين كتبوا في السياسة الشرعية هذه الصيغة: «اتفق الأئمة الأربعة على أنّ الخلافة فرضٌ، وعلى المسلمين أن يعيّنوا قائداً ينفّذ أحكام الدين وينصر المظلوم على الظالمين»، فهذا إجماع متواتر عن أصحاب المذاهب الفقهية، كما يقول الإمام الماوردي(6).
الدولة الإسلامية ليست فكرة خيالية بل حقيقة تاريخية وعوامل قيامها من جديد قائمة في النفوس
2- يؤمن أصحاب الخطاب الإسلامي المعاصر بأن الدولة القُطْرية، التي أصبحت أمراً واقعاً في العالم الإسلامي بعد سقوط آخر تجربة للخلافة الإسلامية، يمكن أن تندرج في صيغة وحدوية أشمل، لتكون شكلاً من أشكال الوحدة السياسية الكاملة للمسلمين جميعاً.
3- كان سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية طعنة نجلاء وجهها الاستعمار الغربي الصليبي لجسد وكيان الأمة الإسلامية؛ تمهيداً لإخضاعها والهيمنة على مقدراتها وثرواتها، وللتحكّم في شؤونها، ومنع نهضتها العلمية والحضارية المؤسسة على ذاتيتها وشخصيتها المتفردة.
4- ليس المطلوب في المنظور الإسلامي قيام مجموعة دول مشتتة الأهداف والتطلعات والغايات، وإنما المطلوب قيام خلافة جامعة للمسلمين، تمثل الأمة الإسلامية، وتُستأنف بها الحياة الإسلامية الرسالية، المنسجمة مع واجب الشهود الحضاري.
5- الدولة الإسلامية ليست فكرة خيالية، بل هي حقيقة امتلأت بها حركة التاريخ وتعطرت بها أنفاسه قروناً طويلة، وعوامل قيامها من جديد في صورة خلافة جامعة، قائمة في النفوس، لكنها مشروطة بإزالة الموانع والعقبات التي فرضتها قوى الاستكبار والقهر المعادية للإسلام والأمة الإسلامية.
6- إنهاء التبعية والإلحاق الحضاري لا يتحقق في أبعاده الصحيحة إلا بإنجاز استعادة الخلافة الإسلامية أو نظام وحدة المسلمين السياسية.
7- تمثل الخلافة في تفكير المنتمين إلى الخطاب الإسلامي المعاصر بديلاً حضارياً خاصة للمظلومين والمهمشين والأقليات المسلمة المضطهدة.
الخلافة الإسلامية جامعة حضارية تمثل ضماناً حقيقياً لنجاح مشروعات التجديد والنهضة والإصلاح
8- يقدم الخطاب الإسلامي المعاصر فكرة الخلافة في صورة واقعية تستهدف قيام اتحاد كونفدرالي بين المسلمين، وذلك على غرار تكتلات الأمم الأخرى؛ مثل الاتحاد الأوروبي أو غيره من التكتلات الوحدوية.
9- يقر المنتمون إلى الخطاب الإسلامي المعاصر بأن الاعتراض على فكرة الخلافة الإسلامية ما يزال يظهر في أشكال وسرديات شتى، منها التشكيك في واقعيتها، ومنها تغليب الفكرة القومية الضيقة عليها انتصاراً للدولة القُطْرية، أو كونها غير واجبة من الناحية الدينية، كما هي محاولة علي عبدالرازق.
10- يؤمن المنتمون إلى الخطاب الإسلامي المعاصر بأن فكرة الخلافة الإسلامية جامعة حضارية تمثل ضماناً حقيقياً لنجاح مشروعات التجديد والنهضة والإصلاح في شتى أقطار وأقاليم العالم الإسلامي.
____________________________
(1) نادية السنهوري، تقديم كتاب «فقه الخلافة»، ص 26.
(2) عبدالرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطوّرها لتصبح عصبة أمم شرقية، مؤسسة الرسالة، ط1، بيروت، 2001م، ص 222.
(3) المرجع السابق، ص 222.
(4) تقي الدين النبهاني، الدولة الإسلامية، منشورات مطابع المنار، دمشق، ط1، 1952م، ص 152.
(5) المرجع السابق، ص 153.
(6) الماوردي، الأحكام السلطانية، دار الفكر، بيروت، 2002م، ص 15.