«اقرأ» كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ستبقى خالده في حياة الإنسان فبها يُدرك كرامته وقيمته، وبها تستعيد أمة الإسلام عزتها وانطلاقتها، لتتحرر من مظاهر الوهن والضعف لتكن كما أراد الله لها (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).
وضمان ذلك بأن نسلك طريق العلم والبحث لذا كانت «اقرأ» أول سبيل المعرفة بخالق الكون وطريق تقدم الإنسان لعمارته، هي الطريق لأداء الأمانة التي حُمِّل إيَّها، وإلا فالجهل والغثائية والهمل والبهيمية بديل اقرأ، فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل! فلم تكن «اقرأ» أول التنزيل من فراغ؛ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1)، فهي الطريق إلى نور العلم بالله وبخَلْقِه؛ (نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: 35).
«اقرأ» سبيل الهداية إلى الإسلام، صراط الله المستقيم الذي دلنا الله عليه لندعو بطلبه في كل صلاة في أول الترتيب فاتحة الكتاب: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {1} الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ {3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (الفاتحة).
وكل منا مدعوٌّ أن ينهل ويتعلم ويُعلم لينجو من ظلمات الجهل والغي إلى نور العلم والهُدى والرشاد، العلم الذي ارتقى بآدم ففاق الملائكة؛ (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ) (البقرة: 31).
اقرأ وفكر؛ فها هو الخليل إبراهيم يقرأ في كتاب الله المنظور (الكون) قراءة المتأمل المتدبر فكان شاكراً لأنعم الله، فاجتباه وهداه، وأراه الله من ملكوته ما لم ير أحد من قبل؛ (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام: 75)، لم يرض الخليل لنفسه الجهل، بجهلها عن الله المستحق للعبودية فعلِم وأدرك، فكان جديراً أن كان أمة؛ (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً) (النحل: 120)، فانطلق لأبيه وقومه ليأخذ بأيديهم إلى الله، وهكذا كل غيورٍ على قومه يتوق لمعالي الأمور ليكون من المُصطَفَينَ الأخيار ببحثه عن الحقيقة، فكان رمزاً صادقاً يتحرى الصدق فأصبح صِدِّيقاً نبياً واصطُفيَ؛ (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 33)، أعْملَ عقله الذي أنعم الله به عليه، وما أكثر من يعمي عقله وقلبه في دنيا الناس.
رجل صحت بدايته؛ فأبحر في ملكوت الله بسلامة قلب وصحة عقل، فكر وقدر فارتقى.
فجاء من نسله نبتة طيبه من البلد الطيب؛ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (الأعراف: 58) محمد صلى الله عليه وسلم، فكان على خطى جده إبراهيم عليه السلام، يمكث في الغار أياماً وليالي يبحث ويُحلِّق في المعالي بقلب سليم وعقل فذ ليصل إلى الحق، فاجتباه ربه واصطفاه فنزل عليه جبريل عليه السلام بنداء الله له أن «اقرأ».
أول ما تطرق لسمع النبي صلى الله عليه من ربه فيقول: «ما أنا بقارئ»؛ فيضمه الروح القدس ليلفت نظره وينبهُهُ، كأنه يقول له: «لا يا محمد، أنت أعلم أهل الأرض في هذه الأنحاء.. اقرأ»، ويتكرر الأمر ثلاثاً، فيقول له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)؛ فتدوت الآفاق وكانت الرسالة، والاصطفاء والاستحقاق بجداره.
إنها نفس تميزت عن سائر الخلق وارتقت بنور العلم والإيمان والعمل بمقتضاه، فكانت «اقرأ» وكان محمد النبي صلى الله عليه وسلم.
فما لبث أن جاءه النداء الثاني ليَعلمَ صلى الله عليه وسلم أنه مُقبل على حملٍ ثقيل ليتلقى القول الثقيل من الخالق الجليل؛ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً {2} نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً {4} إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل)؛ ليخلو بربه ويتزود بتقواه ويُعد لحمل الرسالة الخاتمة رسالة «الإسلام».
وبعد أن قرأ واقترب، وبالتقوى تزود واصطحب، يأتيه النداء الثالث: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (المدثر)؛ ليشكر ربه ويُنذر قومه، وينطلق حاملاً الحق إلى الخلق ويهجر الباطل ويصبر ويتحمل تبعاته، لتبعث الأرض وتحيا من جديد بالنور الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وكان مبعث ذلك ومبتدآه «اقرأ».
نحن مدعون أن نقرأ في كتاب الله لنرتقي بأمتنا، وعلينا كمربّين واعيين أن ننتبه؛ «فكلُّكم راع وكلكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ»، ولنغرس في أبنائنا العلم والإيمان بفهم صحيح، لتكون قراءتهم قراءة المتدبر، وليتجذر في قلوبهم وعقولهم حب القراءة ومعه حب العمل، ونرغبهم في حضور كل الفعاليات التي تنمي الروح والعقل وروح الإيجابية، بل وتخصيص ميزانية قيّمة لشراء النافع من الكتب وجدولة قراءتها فنترك أثراً من ورائنا؛ من علم ينتفع به وولد صالح يدعو لنا، فإذا شاعت ثقافة «اقرأ» بيننا لن يكون للجهل المقيت مكان.
العلماء سادة وأخوف الخلق من الله وأعرفهم له، والأمراء قادة، وحينما كانوا يرجعون إلى سادتهم الربانيين ارتقت الأمة الإسلامية على مدى قرون!
أما آن الأوان لتصحو القلوب والعقول، لتكن «اقرأ» فسيلة نغرسها في نفوسنا وبيوتنا ومنهجاً في حياتنا ولا نترك أبناءنا فريسة للجهل والإلحاد والدجل والضياع مع وسائل «التقاطع» الاجتماعي، في عالم أصبح كالغابة تَحَكَّمَ فيه الحكام على العلماء وغيَّبوا العلماء الثقات فضاع الحكم والعلم فيه فهتكت فيه كل الأستار وانبرى الإنسان من إنسانيته وجحد بخالقه؛ فغاب الحق العدل، ونطق فيه الرويضة والتوافه الفويسقة وأقاموا ما يسمى بمجالس التنوير وما هي إلا مجالس سوء وتزوير؟!
فلتكن «اقرأ» هي نقطة الانطلاق الصحيحة للقيام بدورنا وندرك منزلتنا ومسؤوليتنا في هذا الكون لنحقق مراد الله منا، ونحقق معنى العبادة الصحيح؛ وهو عمارة الأرض بطاعة الله، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، لنعيد بناء مجد تليد بناهُ أجدادنا.
«اقرأ» كانت ولا تزال البوصلة والطريق لتميز الفرد والمجتمع ومن ثم الأمة، فالأمة التي لا تُعد أبناءها لمواطن العز والإباء إنما ترمي بهم في مواطن الذل والخوار!
والإنسان يُنادى عليه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ {6} الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ {7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) (الانفطار).
فالخير والشر فيك، والعلم والإيمان يزكيك، وهو دواؤك وكما قال الإمام علي رضي الله عنه.
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وليكن لك غرساً في نهضة قادمة وبعث جديد لهذه الأمة بالعلم والإيمان، فانطلق ودعك من مواطن الجهل الجُهال، وقل سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.