يمر المجتمع الإسلامي بفترة وهن شديدة، وزاد من شدتها اجتماع الأسباب الخارجية والداخلية، حيث تتمثل الأسباب الداخلية في غياب هيمنة الدين والاختلافات المذهبية والسياسية والتأخر العلمي.. إلخ، وتتمثل الأسباب الخارجية في الغزو الفكري والسياسي والاقتصادي.. ورغم تداخل هذه العوامل وصعوبة فصلها عن بعضها واقعياً، فإن الحل للنهوض بتلك الأمة يتمثل في إعادة بناء الفرد من خلال العناية بالأسرة التي هي محضن تربيته، ومن أهم وسائل العناية بالأسرة رصد آثار تأثرها بوهن الأمة كمحاولة للإرشاد إلى تحديات بناء شخصية مسلمة قوية، تكون قريبة الشبه بتلك التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام، وسنتناول في هذا المقال آثار الوهن الفكري والقيمي في الأمة على المنظومة الأسرية وأفرادها.
أولاً: آثار الوهن الفكري:
1- التشوش العقدي وضياع الهوية:
إن العقيدة الخالصة هي الأساس الذي جمع أفراد المجتمع الإسلامي ووحَّد تصوراتهم وضبط انتماءهم المجتمعي؛ فشكَّل الهوية الإسلامية، وأي مساس لتلك العقيدة يُنذر بضياع تلك الهوية، بل ويسمح بتغلب الأهواء والمصالح الشخصية فيؤدي إلى الفرقة والصراعات كما هو حاصل الآن، وهذا كله مما يؤثر على الأسرة بشكل خطير؛ فتنشئة جيل بعيد عن حقيقة الإسلام يجعله ملقفاً للإلحاد والشبهات والذوبان في الفردية وغياب التصورات المركزية الإسلامية عن الحياة والزواج والواجبات والحقوق، ولذلك يجب العناية بغرس العقيدة السليمة من الصغر، وتعليمها للمقبلين على الزواج بجانب أسس التربية الإسلامية وحقوق الأسرة المسلمة ودور كل فرد فيها ومسؤولياته، وربط كل هذا بإرادة الآخرة ليكون باعثًا أقوى على تزكية النفس فينشأ بذلك جيل ذو عقيدة خالصة ينهض بالدين كما فعل أسلافه الأوائل.
2- ضعف المعرفة والجمود العقلي:
من أشد التحديات الحالية هشاشة البناء العقلي والمعرفي، والجمود الفكري، وذلك كنتيجة لانفصال العملية التعليمية عن دورها الذي حث عليه الإسلام، فقد بيَّن الإسلام أن غاية العلم هو تحقيق خيري الدنيا والآخرة للعبد، وقد جاء على لسان يوسف عليه السلام: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55)، فبين صفتين ليوسف عليه السلام من نتاج العلم؛ وهما حفظ الأمانة الذي يحقق به خير الآخرة، وحكمته بوجوه مصالح صرف الغلال بين الناس، وهذا من خير الدنيا.
ولكي يعود التعليم لدوره، يجب توجيه الأسرة لطرق بناء التفكير الإبداعي والتحليلي والنقدي، وكذلك تعليم الأطفال الغاية الحقيقية للعلم وطرق تطبيقه في حياتهم، وتوجيه تعامله مع تنوع مصادر المعرفة الحاصل الآن وضبطه بميزان الشرع، فكل ذلك مما يسلمه من الجمود العقلي والتقليد الأعمى.
3- الانفصال عن لغة القرآن:
من رحمة الله بعباده أن أنزل القرآن عربياً ليفقهوه وينتفعوا به في حياتهم، يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)؛ أي تزداد العقول بتكرار معانيه الشريفة العالية، وتترقى إلى حال أكمل مما كانت عليه، ومن دون العربية لن تُفقه المعاني؛ لذا حرص المسلمون على تعليم العربية لأولادهم في سن صغيرة، واعتبروها جزءًا أصيلًا من الدين، فبغيرها ينفصل المسلم عن شريعته وتراثه الإسلامي، كما عبر عن هذا شيخ الإسلام ابن تيميّة فقال: «إنّ اللغةَ العربيّةَ من الدِّين، ومعرفتُها فرضٌ وواجبٌ، فإنَّ فهم الكِتابِ والسُّنةِ فرضٌ، ولا يُفْهمُ إلاّ باللغةِ العربيةِ، وما لا يتُّمُ الواجبُ إلاّ بهِ فهو واجبٌ»(1).
وقد تغير تمسك الأسرة بالعربية، فهانت في نفوس كثير من المسلمين، وعُظمت اللغات الأجنبية، وتُعُومل معها على أنها لغة التقدم والعلم، ونُسي أن كثيرًا من أسس هذا التقدم بُنيت على علوم أُلفت ودُونت بالعربية مثل علم الخوارزميات نسبة للخوارزمي الذي تُرجمت مؤلفاته من العربية للاتينية، وكتب ابن سينا في الطب، وكتب البيروني في الجغرافيا، وغيرها من العلوم التي برع فيها المسلمون ثم تُرجمت للغات الأجنبية.
ولذلك، يجب إعطاء الأسرة دورات تعليمية عن أهمية اللغة العربية ومكانتها، وأخطار إهمالها والاكتفاء بتعليم اللغات الأجنبية، ويجب تشجيع الدول الإسلامية لحركة الترجمة وتعريب العلوم الغربية، واجتماع أفراد الأسرة على تعلم علوم اللغة ومداومة التمرن على التحدث بالفصحى ومطالعة الأدب العربي لا سيما القديم منه ليقوى اللسان العربي ويشتد.
ثانياً: آثار الوهن القيمي:
1- انهيار منظومة الأخلاق:
إن المتابع للمجتمعات الإسلامية يلاحظ زلزلة شديدة سببت انهيارًا لمنظومة الأخلاق والقيم، سببها الانفتاح الثقافي على الغرب، وغياب سلطة الدين على النفوس، فنسي كثير من المسلمين القصد من البعثة النبوية الشريفة، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ»(2)، وقد بين هذا الحديث أن من أولويات الإسلام تخلق العباد بأحسن الأخلاق، ولكن كأحد آثار وهن الأمة الإسلامية تراجع تحسين ما حسنه الدين، بل انقلبت الموازين لتحسين ما قبحه الدين وتقبيح ما حسنه بدعوى التحرر والعصرية.
فمثلاً؛ صُدر العنف كأسلوب للأقوياء والشجعان في مقابل اللين والرحمة كأسلوب للضعفاء والجبناء، وصُدّر خلق الحياء كأسلوب للرجعية في مقابل الانحلال كأسلوب للتقدم، وكذلك تقبيح السطوة الأبوية على الأبناء في مقابل تلميع انفصال الأبناء عن أسرهم في سن صغير.
ومع غياب المرجعية الدينية تكون النتيجة كارثية، حيث يتلقى الفرد تصورات مغلوطة عن الحياة، وكذلك تعلمه الانتهازية وسيطرة قانون الغاب، لذلك وجب عناية الأسرة المسلمة بغرس مراقبة الله في نفوس الأبناء والحرص على التزكية دومًا، وغرس مكارم الأخلاق فيهم بتعليمهم الدين وبالقدوة الحسنة من الوالدين، وكذلك الحرص على إنشاء بيئة حاضنة آمنة تدعم الأخلاق الفاضلة وتؤكدها.
2- الانحراف السلوكي:
إن معايير انضباط السلوك تختلف باختلاف المجتمعات وتصوراتها، ولكن يتميز المجتمع الإسلامي بوجود معيار الوحي كضابط ثابت للسلوكيات، والمتأمل للوسائل الإعلامية بالفترة الأخيرة يجدها قد امتلأت بحوادث لا يتخيلها عقل تمثل ناقوس خطر في زيادة الانحرافات السلوكية وتطرفها، ومن أمثلة هذه الانحرافات السلوكية الفحش اللفظي المتفشي بين مختلف الطبقات والفئات العمرية، وانتشار الإدمان والإباحية بصور مخيفة، بل ومن سن صغيرة.
وكل ذلك من أثر ضعف الأمة وهيمنة الثقافات الغربية، فهذه الحوادث إنذار للأسر المسلمة بالقبض على الدين وحفظ فطرة الطفل من الصغر بإبعاده عن كل ما يشوهها، وتنشئة قلبه على معاني الإيمان والإسلام لتستقيم جوارحه؛ فلا ينطق لسانه إلا بطيب، ولا تمشي قدمه إلا في مرضاة الله، ولا تمتد يده إلا لحلال، فالاستقامة على الدين هي الضامن للسواء النفسي والسلوكي، وبالأفراد الأسوياء ينهض المجتمع ويُنصر الدين.
فكما أن مظاهر وهن الأمة المسلمة لا يمكن حصره؛ فكذلك تأثر الأسرة المسلمة بذلك الوهن لا يمكن حصره، وربما يُسبب ذلك الإحباط لبعض الأسر، بل التساؤل عن جدوى محاولات إصلاحهم استصعابًا لها، لكن يكفي المرء طمأنينة ما قاله الله عز وجل في كتابه العزيز: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، فهذا وعد من الله للذين جاهدوا وصبروا على الفتن بأن يهديهم ويثبتهم على طريقه.
_________________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص207.
(2) رواه أحمد والبزار والبيهقي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع (2833).