أورد ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الأمم» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج للعمرة في ذي القعدة 6هـ، فقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج معه، فأسرعوا وتهيؤوا، وَدَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بيته فاغتسل ولبس ثوبين، وركب راحلته القصواء، وخرج في يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، واستخلف على المدينة عبدالله بن أم مكتوم، ولم يخرج بسلاح إلا السيوف في القرب، وساق بدناً، وساق أصحابه أيضا بدناً، فصلى الظهر بذي الحليفة، وأحرم ولبى، وخرج معه من المسلمين 1400، وأخرج معه زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وبلغ المشركين خروجه؛ فخرجوا من مكة وأجمعوا رأيهم على صده عن المسجد الحرام(1).
ثم بعثت قريش 40 رجلاً منهم أو 50، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فأُخِذوا أخذاً، فأُتِي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني؛ عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به.
فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قُتل، فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم»، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وكانت البيعة على الموت أو على ألا يفروا(2)، وفيها نزل قول الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح: 18).
ولما علمت قريش بالبيعة خافت أن تصيب عثمان بمكروه فلم تطل احتباسه، بل سارعت إلى إرسال رسول منها للصلح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفك قيد عثمان رضي الله عنه(3).
وإن الناظر في هذه البيعة المباركة يجد أنها تكشف عن قوة الإيمان وعظيم أثرها في مواجهة الطغيان، وهذا ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية في هذا الزمان، فما مظاهر انتصار الإيمان على الطغيان في بيعة الرضوان؟
أولاً: فشل خطة أهل مكة في تخويف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
لقد أرسل أهل مكة رجالاً يطوفون بالجيش الإسلامي رغبة في إحداث خلل فيه، ثم حبسوا عثمان رضي الله عنه وأشاعوا أنه قد قتل، كل هذا من أجل إرهاب المسلمين وتخويفهم حتى يعودوا إلى المدينة، لكن الذي حدث هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أيقظ قوة الإيمان في قلوب أصحابه، فثارت وانتصرت على قوة الطغيان، ذلك أنه سيطر على الموقف، ودعا أصحابه إلى البيعة على عدم الفرار أو الموت إذا لزم الأمر، فسارع كل المؤمنين بالبيعة، ولم يتخلف عنها إلا منافق واحد، هو الجد بن قيس الذي اختبأ تحت بطن بعيره(4).
ثانياً: قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على إرعاب المشركين وتخويفهم:
وذلك من خلال هذه البيعة، التي ما إن وقعت حتى تسارع القوم لطلب الصلح، وأرسلوا رسلهم لتحقيقه.
ثالثاً: شجاعة عثمان وجرأته على الدخول إلى معقل المشركين:
التزام عثمان برفض الطواف بالبيت حتى يطوف الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة، فيها دليل على حسن التربية والإعداد لهذا الجيل من المؤمنين، فلا يسارع أحدهم إلى تنفيذ رغباته الشخصية أو ينخدع بمعسول الكلام فينسى هدفه وغايته التي جاء من أجلها.
رابعاً: ثقة الصحابة في رسول الله صلى الله عليه وسلم والسمع والطاعة:
إن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السبيل إلى خير الدنيا والآخرة، والناظر في موقف الصحابة الكرام في صلح الحديبية الذي وقعت فيه بيعة الرضوان يجد أحداثاً عظيمة ومواقف متباينة، لا يملك المسلم تجاهها إلا التسليم بالطاعة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم قد خرجوا للعمرة ثم تحول الأمر إلى بيعة على الموت، والصحابة يسمعون ويطيعون للعمرة، وهم أنفسهم يسمعون ويطيعون للبيعة، دون الحديث عن الاستعدادات العسكرية أو النفسية، وهم أنفسهم الذين يقبلون الصلح بعد أن بايعوا على الموت.
إنها أمور مدهشة للعقل حين يفكر فيها! بل إن المسلم قد لا يملك نفسه تجاهها فيندفع إلى السؤال عنها، رغبة في الفهم والاستبصار لا الإعراض والإنكار؛ وهو ما دفع عمر بن الخطاب إلى سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم حين وافق على الصلح بقوله: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى»، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا، أنرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: «يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً»، فانطلق عمر إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً(5).
إن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة إلى التربية على هذه المبادئ التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، فكانوا مثالاً للالتزام والفداء والقوة، والسمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واليقين في وعد الله تعالى بانتصار المؤمنين وتحقيق الفتح العظيم.
_______________________
(1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي (3/ 267).
(2) البداية والنهاية، ابن كثير (6/ 214).
(3) فقه السيرة، محمد الغزالي، ص 332.
(4) تاريخ الطبري (2/ 632).
(5) صحيح البخاري (3011).