رسم الإسلام صورة واضحة الأبعاد، محددة المعالم للعلاقة بين الناس جميعاً على ظهر هذا الكوكب، وأسس هذه العلاقة على التعاون والتكافل والتراحم.
ولم ولن يجد الإنسان صورة للعلاقة بين الناس جميعاً في القارات الست تماثل أو حتى تقارب الصورة التي أرادها الإسلام للعلاقة بين سائر الدول، وكل الأمم في العالم أجمع.
فالإسلام يريد الخير للإنسانية كلها، ويريد للبشر أجمعين أن يعيشوا متعاونين متكافلين متراحمين، ولا مكان في الإسلام للكراهية والبغضاء، ولا للحقد والشحناء، لا بين الأفراد والجماعات، ولا بين الأمم والقوميات.
والإسلام يكره القتال ولا يجيزه بحال إلا لرد الظلم والعدوان، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) (البقرة: 216)، وقال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190).
فالإسلام حرم الاعتداء حتى في أثناء القتال؛ لأن الإسلام يريد بشراً متعاونين، وناساً متحابين متراحمين.
الإسلام يريد من كل إنسان أقلته الغبراء، ومن كل بشر تحت أديم السماء أن يكون سلماً وعوناً ورحمة للإنسانية كلها، وليس لبني قومه فحسب، أو لبني دينه فقط، كما هي الحال عند كل إنسان ليس على دين الإسلام.
أولاً: التراحم:
الحقيقة التي يريدها الإسلام في علاقة المسلمين بغيرهم هي التراحم والرحمة، لا البغضاء والكراهية، كما هو الشائع والمشهور في دوائر الفكر بالغرب، ولدى بعض بني جلدتنا من عبيد الفكر الغربي، وأنصاف المتعلمين، لكن حقيقة العلاقة بين المسلمين وغيرهم هي التراحم، والود والبر كما بينها رب العالمين في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، فرب العالمين لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للمسلمين فحسب، بل أرسله رحمة للعالمين أجمعين.
وقال جل جلاله: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {43} فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه)؛ فالله تعالى يأمر رسوله موسى عليه السلام أن يكون رحيماً بفرعون الذي قال: «أنا ربكم الأعلى»! ويأمره أن يقول له قولاً ليناً، فهل بعد ذلك من دليل على أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم قوامها الرحمة، ومبناها على الود لا على الكره.
وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)؛ فطالما أن غير المسلمين لم يعتدوا علينا فالله عز وجل لا ينهانا عن برهم والإحسان إليهم.
كفار قريش فطنوا حقيقة الإسلام
وقد حقق كفار قريش وأهل الجاهلية الأولى سبقاً علمياً حين أدركوا هذه الحقيقة في صدر الإسلام، فقد روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود أن قريشاً نزل بها قحط شديد، ومجاعة خطيرة فجاء زعيمهم أبو سفيان يطلب غوثاً عاجلاً من نبي الرحمة، فعن عَبْدِاللهِ بن مسعود قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا، قَالَ: «اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ»؛ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللهَ لَهُمْ. (رواه البخاري ومسلم).
والأعجب من ذلك أن نبي الرحمة بالإنسانية كلها دعا لكفار قريش فاستجاب الله عز وجل دعاء حبيبه ونزل المطر من السماء مدراراً ساعات وأياماً حتى أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الدعاء بوقف المطر فدعا لهم ثانية فأمسكت السماء.
وقد وعت الدنيا كلها وحفظت تواريخ الأمم كافة عن محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفتح المبين للبلد الأمين، مكة المكرمة، حين قال لكفار قريش، وصناديد الكفر، وعبدة الأوثان: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولم يفرض عليهم ديناً ولا طغياناً، ولكن أعطاهم الحرية الكاملة التي لم تعرف لها الدنيا نظيراً، ولا الوجود مثيلاً، لأن دين الإسلام جاء ليصنع السلام، ويدحض الطغيان، ويحارب الظلم في كافة أرجاء الكون.
ثانياً: التعاون والتكافل:
الإسلام أمل الإنسانية في التراحم والتعاون والتكافل بين الناس جميعاً في الدنيا كلها، وأما غير ذلك من أفكار وأيديولوجيات، ومذاهب وفلسفات فلم تقدم للبشرية إلا الخراب والدمار، والظلم والعار!
ثم اتهموا الإسلام بالحض على العنف والقتل والإرهاب، وهو عكس رسالته التي تحمل السلام للعالم أجمع، وقد جاءت نصوص القرآن قبل أكثر من 14 قرناً لترسم للوجود كله الطريق إلى التراحم والتعاون والتكافل بين الوجود كله، ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)؛ فالله تعالى خلق الناس شعوباً وقبائل، وأمماً ودولاً؛ ليتعاونوا لا ليتقاتلوا، وليتنافسوا في خدمة البشرية، ويكفل المتحضر المتخلف، والمتقدم المتأخر، والغني الفقير.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة، في كتابه «العلاقات الدولية في الإسلام» تعقيباً على الآية السابقة: «وإن هذا التعارف يجعل كل فريق ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر، وتكون خيرات الأرض كلها لابن هذه الأرض وهو الإنسان، فلا يختص فريق بخير إقليمه، ويحرم منه غيره، فإذا كانت الأرض مختلفة فيما تنتجه فالإنتاج كله للإنسانية كلها، ولا سبيل لذلك إلا بالتعاون والتعارف الإنساني، فالتفرقة الإقليمية لتستغل الأرض في كل أجزائها، وكلها للجميع، وفي سبيل ذلك حث القرآن الكريم على السعي والضرب في الأرض طلباً للرزق، وطلباً لهذا التعارف الإنساني، وليحصل أهل كل إقليم على ما عند الآخرين».
ولتأكيد مبدأ التعاون الدولي، والتكافل الإنساني بين البشرية كلها، تتابعت نصوص القرآن التي تحض على هذا السبق الحضاري الفريد، الذي امتازت به الحضارة الإسلامية دون سواها من سائر حضارات الدنيا في التاريخ كله، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
فهذا أمر إلهي للإنسانية كلها، وليس للمسلمين دون غيرهم، أن تعاونوا وتكافلوا على الخير والفضيلة، لا على الشر والرذيلة، وليأخذ العالم بيد الجاهل، فكما قيل: لا يُسأل الجاهل لِمَ لَمْ يتعلم، حتى يُسأل العالم لِمَ لَمْ يعلّم.
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم دستور المدينة فور وصوله إليها مهاجراً من مكة، وكان هذا الدستور من 52 مادة دستورية، وفيه تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، وكل الطوائف المقيمة بالمدينة على النصح والتعاون والتناصر والتكافل.
وهذا غيض من فيض يؤكد سبق وتفرد وتميز الإسلام لكل حضارات الدنيا في تحقيق التعاون والتكافل والتراحم بين العالمين أجمعين.
هذا الوقت الذي ما زالت فيه الحضارة الغربية حتى يوم الناس هذا تضع النظريات والأفكار للبغي والعدوان، وتصادم الحضارات، وصراع الجماعات!