الزمان
تجري الأحداث في فترة زمنية محدودة نسبيًا، وهي فترة الحملة الفرنسية على مصر وما بعدها، حيث ينسحب الفرنسيون ومعهم مجموعات الخونة الذين آزروا الحملة، وحاربوا معها أخوتهم في الوطن انطلاقا من تعصّب مقيت لا مسوّغ له، ودعما للغازي اللص المستبد الذي ينظر إليهم في حقيقة الأمر نظرة دونية، ويعاملهم في الواقع باستعلاء عنصري بغيض.
الزمن الروائي يتمدد وفقا لطبيعة الشخصيات ونموها، أو استدعاء ماضيها وتاريخها، وهو بصفة عامة أقرب ما يكون إلى التتابع والتدفق إلى الأمام، ويمضي قدما ليصور هزيمة نابليون على أبواب موسكو، من خلال نمو شخصية فضل وترقيها في سلك العسكرية الفرنسية ومهارته في مجال القتال ومواجهة الأعداء حتى قضى نحبه مع انهيار جيش فرنسا وهزيمته الساحقة.
كما يسجل الزمن معطياته مع الشخصيات في حنينها إلى بيوتها ومواطنها ورفاقها وذكرياتها والحوادث التي مرت بها والآثام التي قارفتها… الزمن فاعل ومحرك نحو اتخاذ قرارات ومواقف تجاه الماضي والحاضر والمستقبل، وهو ما نراه عبر بناء الرواية وتصوير شخصياتها.
(زمن الرواية حوالي عشر سنوات عمر فضل الصغير) – زمن تفوق الفرنسيين وهيمنتهم على البحار وسعيهم للسيطرة على روسيا وكسرها والتفوق على إنجلترا واستخدام الأقليات، والتفكير في التخلص من اليهود”.
البناء الروائي
تنقسم رواية ضحى عاصي إلى ثمانية فصول، كل فصل يضم خمسة أجزاء أو أكثر، تتحرك من خلالها الضمائر الثلاثة في السرد والشرح والتوضيح، وفقا لطبيعة الزمن والشخصية والأحداث.
تبادل الضمائر يوقع في مآزق سردية- إن صح التعبير- ومع إخفاء اسم السارد لفقرات أو صفحات عديدة يصعب أن تتعرف فيها على الراوي أو الشخصية الساردة، فإن ذلك يشكل اضطرابا لدى القارئ في متابعة السياق السردي بشكل طبيعي، ومع أن ذلك يدخل في نمط التشويق أحيانا، إلا أن تطويل السرد دون أن نتعرف على السارد يخلق حالة من الحيرة والتشتت، تستمر حتى الوصول إلى صاحب الحديث أو الكلام.
يبدأ البناء الروائي بتصوير انسحاب الحملة الفرنسية وخروج يعقوب ومجموعات الطائفيين الخونة على سفينة السفر إلى فرنسا. واحتفال الجموع المصرية الغفيرة بزوال غمة الاحتلال والإجرام والنهب والأذى، وقد أطلقت النساء زغاريد الفرح ابتهاجا بالحرية، وفي هذه البداية نتعرف على أبرز الشخصيات الأساسية وأوضاعها الاجتماعية والفكرية، وموقفها من الحملة الاستعمارية، والسلطتين المحلية (المماليك) والمركزية (الخلافة العثمانية).
شيطنة العثمانيين
ثم نشهد عودة القائد الاستعماري نابليون من يافا بعد أن قتل ثلاثة آلاف أسير هناك، وظهور سيرة شيخ العرب همام من خلال أتباع يعقوب وحركات الانفصال عن الخلافة، وشيطنة العثمانيين، وتصوير العرب في صورة النخاسين وتجار العبيد والجواري، وموت كبير الخونة يعقوب، بعد ركوب البحر.
ويصل الخونة إلى مرسيليا، ويعيش بعضهم حياة جديدة في مجال العسكرية والتدرب على القتال، وتلتقي إحدى الجواري من أصل فرنسي بأختها الكونتيسة التي لم تهنأ طويلا بزواجها من أحد الأثرياء، وينضم فضل- الشخصية الأساس- إلى الجيش الفرنسي، ولكنه يعود مرة أخرى إلى التجارة وصناعة الأرابيسك.. ولا يلبث أن ينضوي تحت لواء كتيبة فرنسية، ويتعلق بالكونتيسة التعيسة متجاهلا زوجه محبوبة التي تركها وراءه في مصر، ويلتقي معها لقاء الخطيئة في مشهد إباحي سافر يستغرق مساحة ليست محدودة (الرواية، ص139- 143)، ويخلف لديه إحساسا بالإثم والندم يدفعه إلى الاعتراف، ولكن الكنيسة الكاثوليكية لا تقبل الاعتراف لأنها لا تعترف بالكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية).
تحاول الجارية سعيدة التي عادت بعد عشرين عاما عاشتها في مصر إلى اسمها الأصلي(جين) أن تجد عملا لتعول نفسها، وتتعثر في الحصول على عمل مناسب يحقق عائدا معقولا، وتتمنى لو عادت جارية عند سيدها في مصر إبراهيم بك الألفي، ويعيش فضل إحباطا مع انهيار الحلم الذي بشّر به يعقوب، فيتساءل: لماذا جئت إلى هنا؟ ويعمل في التجارة وتتوثق علاقته مع صديقه لوسيان، وينفرط عقد الغربة ويندمج مع الثوار الفرنسيين وتفشل دعوته الكهنوتية لجمع شمل المصريين أنصار الحملة ومواجهة المسلمين.
الكولونيل فضل
يتابع فضل تحولاته، فيصير محاربا فائقا في جيش الغزاة، ويترقى إلى رتبة كولونيل، ويتلقى إشادة من القادة، ولكنه يعاني من آلام في بطنه تمنعه من تقبّل الطعام، وفي الوقت نفسه ينخرط في صالون السيدة أنستازيا دوترامي، ويلازمه شعور بالذنب وعدم الرضا بسبب خطيئته مع الكونتيسة فيتمسك بالصلاة والدعاء ويسوع، وتظهر شخصية منصور حنين في المكتب الإداري بالحربية الفرنسية، ويتعرف على كونتيسة أخرى اسمها المصري زهرة تحن إلى بولاق والأزبكية وبين السورين وقهوة عبده المالطي، ولكن هواه ينصرف إلى الجيش الفرنسي، فيخطط للحرب خارج فرنسا ويتجدد حلمه بالعودة إلى مصر وهو على رأس حملة عسكرية . ونقرأ عن رسالة نمر أفندي وما يسمى الوفد المصري إلى نابليون لإعادة احتلال مصر والاستقلال عن الدولة العثمانية- يا لها من رؤية بائسة! – وتسعى أنستازيا لاستعادة فضل من أجل خدمة الدولة، وتطلعنا الرواية على طرف من تاريخ الثورة الفرنسية: روبسبير والديانة الجديدة (الفضيلة)، وفكرة الإله الأعلى. وتعيدنا إلى فضل وزهرة وموقف المشايخ المصريين وسذاجة بعضهم مع محمد علي، وحديث فابيان عن الديكتاتور الكورسيكي، وإنشاء المجمع العلمي بالقاهرة وعبد الملك الشفتشي ومسألة استقلال مصر برعاية فرنسا وإنجلترا، ومتابعة تشويه الأتراك والمماليك، وتطالعنا شخصية فرط الرمان (برطلمين) الذي اصطلى المصريون بظلمه وطغيانه، ثم تخبرنا الرواية بوجود ولد لفضل من زوجه محبوبة عمره عشر سنوات.
الهزيمة في روسيا
وتختم الرواية باستعراض وقائع الغزو الفرنسي لروسيا التي شارك فيها فضل بوصفه قائدا مهما بعد أن حاول زيارة فرانسوا ومناقشة أفكارها عن العفة والخطيئة، وبحثه عما يسمى الوفد المصري للاستقلال، ومن خلال الأحداث نطالع رغبة منصور في الزواج من زهرة، ولكنها تتمسك بالإسلام لأنه لا يجوز اقتران مسلمة بغير مسلم.
ويسهب الفصل الأخير في تناول طبيعة المعارك على أرض روسيا، وعبقرية فضل في تجاوز كثير من الصعوبات، التي غلبته في النهاية وغلبت نابليون حيث تقهقر جيشه الذي غرق في الثلوج ومن ضمنه فضل الذي ابتلعه نهر تريزنا.
ثم نرى إلحاحا على فكرة لاهوت التحرير، ووحدة الكنائس! مع أن الرواية تبشر بتنحية الدين جانبا وفقا للثورة الفرنسية، وتحرير الإنسان من كل السطوات، وخلق أرضية إنسانية جديدة، ليكون الناس معا (الرواية، ص266).
ومن المفارقات أن ابن فضل واسمه فضل أيضا يحلم أن يكون ضابطا عظيما مثل أبيه في جيش مصر، ولكن أمه محبوبة يصيبها الهلع، وتبحث عن قبر الأب لعل الابن يستطيع أن يزوره يوما!
تقنين التمرد
واضح أن البناء الروائي يخدم مجموعة من الأفكار والرؤى التي تقنن التمرد الطائفي وتشيد به من خلال ما يسمى بوجهة النظر في الرواية، كما يتبنى بعض الوصفات الفنية التي تسهم في رواج العمل الأدبي لدى نوعية معينة من القراء. ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- الإشادة بالخائن يعقوب، وتسويغ خيانته، وعقد لواء البطولة له بوصفه باحثا عن استقلال مصر، ليس من الغزاة الفرنسيين الذين قتلوا سُبْع الشعب المصري، ونهبوا كل ما وقعت عليه عيونهم، وزرعوا الفتنة بين المواطنين، ولكن من المماليك والعثمانيين (المسلمين).
- تقديم الخونة الذين خرجوا مع الحملة المنسحبة بوصفهم باحثين عن الحرية والاستقلال، وهوية مصر المسيحية التي ضاعت تحت أقدام الفاتحين المسلمين.
- الإلحاح على فكرة لاهوت التحرير التي تبناها الكهنة في أميركا اللاتينية بوصفها طريقا لتحرير مصر من الأكثرية الإسلامية الساحقة، وتأصيل الرؤية الماركسية في المجال السياسي والاقتصادي.
- التماهي مع العدو الفرنسي الذي أهان الشعب المصري ونهب محاصيله واستولى على مقدراته، بوصفه أمل الطائفة في الاستقلال والنموذج الذي يمكن أن يحتذيه النصارى في الفكر والتطبيق.
- شيطنة العرب والمماليك والعثمانيين بوصفهم رموزا للإسلام الذي ينبغي التحرر منه وعدم الارتباط به، فهو سبب الظلم والقهر، واشمل يا نصراني، وانزل من على البغلة يا نصراني!
- إظهار التمسك بالنصرانية من خلال رفض الخطيئة والندم بعد الوقوع فيها، والارتباط بالكنيسة والكهنة، والبحث عن جمع شمل النصارى الأصوليين (الأرثوذكس) في الغربة.
- استعانت الرواية في بنائها الفني بالأحلام والكوابيس والخطابات والوثائق واللافتات والأخبار ، مما سنشير إلى بعضه في مجال الصياغة لاحقا.
- لاريب أن الوصفة الفنية الفاسدة التي تنصح الكتاب بتصوير المشاهد الإباحية بتفاصيلها الدقيقة، أو تضمين النص حالات الشذوذ الجنسي، تجد صدى لدى بعض الكتاب سعيا للرواج الأدبي، والشهرة الدعائية، وللأسف فقد أغرقت الرواية في مشهد إباحي بين فضل والكونتيسة، أشرنا إليه من قبل، حيث رصدت تفاصيل دقيقة تصل بالمرأة إلى حد البكاء تعبيرا عن وصولها إلى ذروة النشوة، وهي لا تضيف إلى البناء الروائي جديدا، وكان يمكن أن تعبر الرواية تعبيرا رمزيا في بعض السطور التي تجعل السياق الفني طبيعيا، ويبدو أن المفاهيم بين الفن والدعاية تعاني خللا واضحا.
هذه أبرز النقاط التي عالجتها الرواية، مع محاولة كسب التعاطف مع شخصيات الرواية المتمردة، وإثارة السخط على ممارسات المماليك والعثمانيين والعرب، وتجاهل حقيقة واضحة تقول إن ظلم المماليك والعثمانيين وقع على الفلاحين المسلمين البسطاء الفقراء، الذين لم يملكوا نفوذ النصارى ولا ثراءهم.
الشخصيات:
تتناول الرواية في تركيز بعض الشخصيات المتخيلة والحقيقية، وتضع الشخصيات الحقيقية في موقع ثانوي من المعالجة، ومعلوم أن التركز على الشخصيات المتخيلة يتيح مجالا واسعا لعرض الأفكار أو وجهات النظر الروائية.
وبصفة عامة تقوم الشخصيات بمهمة واضحة في نفي تهمة الخيانة عن يعقوب ورهطه الذي كونوا فيلقا قبطيا حارب الشعب المصري المسلم وقاتله إلى جانب جيش الغزو الفرنسي الذي قاده نابليون ومساعدوه حتى وصل إلى الصعيد. وتفسر الشخصيات الروائية سبب انضمامها إلى جيش الغزو الفرنسي، بأنه دفاع عن الطائفة التي تتعرض للذبح على يد المسلمين وقادتهم، وتلح على ما يسمى مذبحة النصارى بمعرفة المهاجمين من المسلمين. وهنا لا بد من التساؤل عن تقديم هذه المذابح بوصفها حقيقة لا ريب فيها: هل تحدث المؤرخون الفرنسيون الذين كتبوا عن الحملة الفرنسية أو رافقوها عن هذه المذبحة أو المذابح وفقا لمقولات بعض الشخصيات الروائية؟ دعنا من المؤرخ الثقة المعاصر للحملة وهو الجبرتي الذي لم يشر إلى شيء من ذلك.
تبرير الخيانة
من الواضح إن الإلحاح على المجازر والمذابح المزعومة للنصارى كانت لتبرير الخيانة والهروب إلى فرنسا ومحاولة إعادة الغزاة الفرنسيين إلى مصر مرة أخرى لتحقيق الاستقلال (المزعوم) عن الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة وليس عن دولة الاستعمار الفرنسي الذي قتل سُبْع الشعب المصري (ثلاثمائة ألف مصري، من مليوني ومائة ألف عدد سكان مصر في ذلك الوقت!).
ويدافع بعضهم عن الخيانة ودعوة فرنسا وانجلترا لاحتلال مصر، بأنها لم تكن اختيارا لدولة طائفية ولا استرجاعا لطغيان استعماري دموي، بل لإقامة جمهورية متأثرة بالثورة الفرنسية، فيها الحرية والإخاء والمساواة، ولا سلطة فيها لمؤسسة دينية (لا مجال فيها للإسلام ولا مؤسساته العلمية مثل الأزهر)، ويطلق فيها الصنائعية أحرارا من رق أصحاب العمل وطغيان النقابات الحرفية، وتشارك النساء بحرية في الحياة السياسية، ولهن حق الانتخاب والطلاق!
وهل عرف العالم معنى الحرية والإخاء والمساواة قبل الإسلام؟ ولماذا النقل عن الثورة الفرنسية الدموية التي حركتها الماسونية لأهدافها الشريرة في السيطرة على العالم؟ وهل هناك سلطة دينية في الإسلام أم إن هذه السلطة الدينية لم تعرف إلا في الكنيسة؟ هل الجمهورية الحرة لا تتحقق إلا بالتخلي عن الإسلام في الوقت الذي يبحث فيه الآخرون عن هوية طائفية قائمة على تعاليم الكنيسة؟ وهل يقر الإسلام ظلم العمال وهو الذي فرض على المسلمين أن يعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وجعل التفاضل بين الناس على أساس التقوى، وأمر بالعدل في القول والفعل؟ وسؤال ساذج حول المرأة الفرنسية هل كانت لها حقوق سياسية وتشاركية في المجال العام قبل القرن العشرين؟ ثم هذا السؤال المثير للسخرية والأسى في آن:
هل الأرثوذكسية تسمح بالطلاق في ظل نظرية لاهوت التحرير الذي تطلقه الرواية؟
من العجيب أن يصف بعض من كتبوا عن الرواية بأن علاقة النصارى بالغزاة الفرنسيين هي علاقة “تعاون”! ما معنى التعاون مع العدو؟ هل هو التعاون على البر والتقوى مثلا؟ العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة يصف الخونة الذين يزوّدونه بالمعلومات ويقفون إلى جانبه في قهر شعبهم الفلسطيني “بالمتعاونين” أيضا، فهل صارت الخيانة تعاونا، أو كما سماها بعضهم وجهة نظر؟
يعقوب
ولنقف قليلا عند الشخصية التي رفعت لواء الخيانة والقتل باسم الاستقلال، إنها شخصية يعقوب الذي كان يعدّ وزيرا للمالية في زمنه، ومن كبار الأثرياء في الطائفة.
تأمل ما يقوله الأب عبد الملك الشفتشي عن شخصية يعقوب، والأب رجل دين له كلمة مسموعة ومؤثرة في الوسط الطائفي، ويعبر عن توجه عام لدى أتباع الكنيسة:
“المعلم يعقوب رجل بمائة رجل. رجل لم تأت به ولادة. كيف خطرت له فكرة أن يبني قلعة ويسوّرها بسور وأبراج.، وباب كبير وكذلك بنى أبراجا في ظهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وعمل السور المحيط والأبراج، طيقانا للمدافع وبنادق الرصاص، وقام بتوزيع الشباب الملازمين للوقوف ليلا ونهارا على باب القلعة الخارجي والداخلي، وبأيديهم البنادق” (الرواية، ص 19)، ويكمل العم جرجس إشادته بيعقوب، ويركز على نقطة أساسية: “لولاه كنا ذبحنا كلنا مثل نصارى الرملة وبين السورين”، ويتمنى جرجس لوكان شابا كي يتبعه ولا يتركه في رحلته إلى الاستقلال! ويسأل فضل: هل ترغب في الانضمام للجيش (يقصد الفيلق القبطي)؟ (الرواية، ص 20).
يرى فضلٌ يعقوبَ مختلفا عن كل من عهدهم من القبط، حتى أكابرهم، يبدو عليه الغرور والتكبر، ولكن بقسمات وجهه عزة نفس شديدة، وبنبرة صوته الجبلي قوة وثبات بإمكانهما إرهاب جبل. إنه صاحب هيبة يشعر بها فضل (الرواية، ص 28).
صورة الزعامة والبطولة والمهابة ليعقوب، التي تقدمها الرواية لا تؤثر فيها بعض الآراء الخافتة التي تقول إن البطرك غاضب منه، أو إنه فاجر كما وصفته محبوبة، وعلينا نحن المتلقين وفقا لآراء الشخصيات الروائية المؤثرة أن نقبل خيانته، وتكوينه للفيلق القبطي، وتحصنه في قلعته، أو كرنكته في الرويعي وفقا لتعبير الجبرتي، بكل أريحية، ونقره على ما ارتكب في حق الوطن الذي يبحث له عن محتل فرنسي أو إنجليزي يحرره من الاستعمار الإسلامي!
ثم تأمل وصف منصور حنين له وتبريره لخيانته التي يراها حصولا على حق حرمهم منه المسلمون، فهو يرى أن حكمته كبيرة، وليست حلما كما يعتقد بعضهم، وقد وجد الفرصة سانحة لتحقيق ما حرمهم (أي الطائفة) منه العثمانلية والمماليك، وأن يحصل من الفرنسيين الذين تناقص عدد جنودهم على موافقة بتكوين فيلق قبطي تابع للجيش الفرنسي، كما وجدها فرصة ليتدرب شباب القبط على يد أقوى جيش في العالم، ويكون نواة لتأسيس جيشنا… (الرواية، ص 73-74).
هذه شخصية يعقوب في عيون كبار الطائفة، تستحق الفخر والإشادة لأنه كون الفيلق، وقاتل مع الفرنسيين ضد المسلمين، وخان وطنه، ولكن حظه التعيس جعل الحملة ترحل قبل أن تتمدد قوته على الأرض وبناء جيش طائفي يهدد به العثمانيين والمماليك وليس فرنسا أو إنجلترا، بعد أن يمحو المظلومية المدعاة!