مادة الرياضيات بيني وبينها بُعد المشرقين لا أهواها منذ طفولتي، فقد حيل بيني وبين فهمها، إذ لم أوت حظاً من سرعة البديهة وقوة القريحة، وأعرف أن محبيها تبدو عليهم مخايل النجابة والذكاء، وما زلت أذكر هذه الكلمة التي كتبت في شهادتي ونقشت في قلبي وأنا في الصف الرابع الابتدائي «ناجح ومنقول إلى الصف الخامس وأرجو الاهتمام به في مادة الحساب»!
جمعتني الأقدار بعَلَم بارز في مادة الرياضيات قريباً، فحدثني عن النقطة الحرجة؛ وهي النقطة التي تكون في المنحنى «صفر»، وعندها يبدأ الارتفاع والانطلاق.
ومن عالم الرياضيات إلى الواقع الحياتي الذي نعيشه، هل دب اليأس إلى قلبك من الخطر الداهم الذي يحدق بالمسلمين من كل صوب وحدب؟ وهل من المستحيل أن تتحسن الأحوال وتزول النكبات، وتسكن الأزمات؟ فما أكثر الرياح الغادرة في زمننا؟ والإجابة بيقين: نعم بالتفاؤل والأمل ستنفجر ينابيع اليسر من صخر العسر بإذن الله تعالى.
نهضة العاثر
قصة طريفة أوردها الراشد في كتابه الماتع «العوائق»، مفادها أن زاهداً كان كثير الوصية والنصح لأصحابه، يروي لهم كل يوم طرفاً من تجاربه في الحياة، وتأملاته في طبائع النفوس، فلما أنهى حديثه ذات يوم قال له مقدم أصحابه: لو أوجزت أيها الشيخ معناك في جملة تكون لنا شعاراً، فقال الشيخ: نعم أفعل، فقام وكتب على الجدار الذي يجلسون عنده بخط كبير «لا تمضوا في طريق اليأس ففي الكون آمال، ولا تتجهوا نحو الظلمات ففي الكون شموس»(1).
اليأس والأمل نقيضان لا يجتمعان، فالأول رذيلة مذمومة، والثاني فضيلة محبوبة، والمؤمن الحق يرى الخير من خلال الشر، وشعاع الشمس من خلال الغمام، ونور الفجر من وسط الظلام؛ «وللحياة حدان؛ أحدهما الأمل، والآخر الأجل، فبالأول بقاؤها، وبالآخر فناؤها»(2).
ولقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم القدح المُعلى في خلق الأمل والتفاؤل في كل أموره وأحواله، في حله وترحاله في حربه وسلمه، في جوعه وعطشه، وفي السيرة النبوية ميدان رحب فسيح لصور التفاؤل والبشارة بالفتح والنصر على الأعداء خاصة عند الشدائد والمدلهمات.
عن البراء بن عازب قال: «لما كان حين أمرنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بحَفْرِ الخَنْدَقِ عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا نأخذُ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال: بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ»(3).
وقد نصر الله رسوله وجنده في غزوة «الأحزاب» وتحقق ما بشَّر به المعصوم صلى الله عليه وسلم.
التفاؤل نهج الأنبياء
التفاؤل والأمل من هدي الأنبياء، وهما نبراس يضيء الطريق والحياة، وفجر ساطع في دياجير الكربات والابتلاءات، مع الأخذ بالأسباب وإعداد العدة لردع الأعداء ومجابهة الكفار والسفهاء.
قال تعالى: (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف: 128)، وقال تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110).
إنها ساعات حرجة والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض، فتجيش في خواطرهم الهواجس تراهم كُذبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟ وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر، في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة، في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً(4).
المنبر العجيب
على نهج الكبار سار القائد الملهم نور الدين محمود زنكي، فقد سطر بأحرف من نور هذا الموقف الرائع للتفاؤل في أروع تجلياته، وللأمل في أعلى كمالاته، فقد جاء في سيرته وهو بحلب أنه كان يخطط لفتح بيت المقدس وتطهيره من أرجاس الصليبين الحاقدين، فدعا النجارين، حذاق الصناع، وقال لهم: اعملوا لي منبراً نتفاءل أننا سنسير إلى بيت المقدس ونفتحه ونخطب على هذا المنبر، إن شاء الله تعالي، فعمله النجارون في بضع سنين لم ير في الإسلام مثله، ولكن قدر الله كان أسبق، فقد رحل نور الدين ولم يشهد ذلك الموقف، وولي الأمر بعده صلاح الدين وفتح بيت المقدس وأمر بالمنبر فأتي به من حلب ووضع ببيت المقدس، وكانت المدة بين عمل المنبر وحمله إلى بيت المقدس ما يزيد على 20 عاماً، وأقيمت صلاة الجمعة في 4 شعبان 583هـ بعد انقطاع دام 90 عاماً، وكان خطيبها محيي الدين بن زكي الدين صاحب البشرى الذي افتتح خطبته بهذه الآية الكريمة: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 45)(5).
يحار المرء ويجد نفسه متصاغراً عندما يقف على طرف من سير العظام أمثال هذا القائد الهمام، ففيها الفوائد الجسام وبها يحلو الختام.
أولاً: هذه صفحة مشرقة أطلت بضيائها وسط ركام من اليأس وبحر من الإرجاف تعلمنا أن الثقة بالنفس بناء عظيم وأساس قويم، فإياك أن تصدع لبناته وتهدم أركانه.
ثانياً: أن الأمة التي نهشها القنوط واليأس لا يرجى لها الخير إلا إذا تحصنت بجدار الثقة بالله تعالى، فهو وحده القادر على إعادة عز ضاع، واسترجاع سيادة مضت.
ثالثاً: لا بد من إلغاء اليأس والإحباط من قاموس الدعوات، ونفي الملل من معجم الحركات، ومسح القنوط من مخيلات أصحاب القامات، وأبشروا فعند النقطة الحرجة يأتي النصر فإن أقصى نقطة استضعاف هي أول نقطة في التمكين.
الآن أدركت أنه فاتني خير كثير عندما تخصصت «أدبي علوم»! ولم أتخصص «علمي رياضيات»! إن كنت قد وعيت الدرس فول وجهك شطر السماء.
________________
(1) العوائق، ص 279.
(2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 266).
(3) فتح الباري (7/ 458).
(4) الظلال (4/ 2036).
(5) الكامل في التاريخ، ابن الأثير (7/ 37).