من الإيمان إلى الميدان والطوفان
في كتابي «الإستراتيجية الصهيونية والتطبيع» لم أتحدث عن معركة «سيف القدس» ولا معركة «أثر الأحرار» ولا «وحدة الساحات»، لكن استشرفت مستقبل المقاومة بالأسس الذاتية التي تتمتع بها، والتربية التي تربى بها الرجال من أجل صنع وصناعة تفضي إلى ثمرة مباركة، وشجرة كريمة، ومعركة مفتوحة، ووعد آخر قريب سيغير الكثير في المنطقة والعالم المتلهف لمشروع استخلاص الصهيونية من داخل الشعوب الغربية.
المقاومة ركزت على الأسس التي تجعل من الإنسان «محور التغيير» ومشروع طوفان قلبي ونفسي ينتقل من «الإيمان إلى الميدان»، وهو نفس شعار نور الدين زنكي بعد سنين من تربية الجيل واتباع وصية عبدالقادر الجيلاني بالتركيز على بناء الأسس الذاتية للإنسان بالتربية الجامعة، وهي نفس الأسس التي تخشى القوى الصهيونية والعربية المطبعة انتقالها روحاً وفكراً وعملاً من مدارس وأنفاق غزة إلى الشعوب العربية، فتَسْري هذه التربية لصناعة جيل آخر ممكن مُكَمِّل لجيل غزة والضفة والأنفاق.
التطبيع الروحي: من تقمص العقل إلى تقمص النفس
هي نفس الأسس التي رصدتها القوى اليهودية زمن الإفساد الأول في عهد الجيل الصحابي الخالد زمن النبوة، فعلموا وفقهوا وعرفوا من هو النبي صلى الله عليه وسلم، وما هو مشروعه التغييري الذي سيبطل أخطر المشاريع العالمية الإفسادية في التاريخ القاتلة للأنبياء والإنسان والملل، فجَحَدوا واستكبروا بعد علم وقراءة ودراسة لعمق المنهاج النبوي المُغَيِّر المُحَرِّر.
بعد معرفة اليهود عمق الإستراتيجية الإيمانية وأسسها ومآلاتها لبناء جيل مبارك صانع الفتوحات ومدمر لمشروع اليهود والإفساد الأول تحقيقاً لوعد الله الأول، سعى خبراء اليهود العلماء إلى توظيف سياسة خبيثة؛ هي سياسة التطبيع مع العرب وقريش تنسيقاً وتكالباً مع هذه الأطراف العربية التي لم تصل قط إلى علوم والعقل اليهودي التوراتي، لكن اليهود سيطبعون مع العرب وقريش تطبيع وعي وحديث وعقل، سيعلمون قريشاً جزءاً من هذا العلم من خلال عملية تطبيع، أي تواصل وتعليم وتوعية قريش والعرب بمشروع النبوة وخطره في نظرهم.
هي عملية تمت «بخطة خبيثة يهودية» تدفع الروح اليهودية أولاً بتقمص نفسية قريش، فالتأثير الداخلي فيها بكثرة الإقناع ودس الحقد في قلوبهم ونفسيتهم بتكرار متصاعد.
الخطة اليهودية لم تجنح فحسب إلى اختراق العقل القريشي وحشوه بأفكار ومعلومات للتحذير من مشروع النبي صلى الله عليه وسلم، بل اختراق النفس القريشية بالحقد والحسد والبغضاء ودفن كل هذا في الأحشاء العربية الجاهلية الجاهلة، فتأثير العقل لا يتعدى العقل ويمكن أن يُغَيَّر بفكرة أخرى، لكن تأثير النفس يبقى دفيناً بحقد وقسوة وظلمة ضد المُهدد والمُستهدَف النبوي، وهذا خلاصة الجاهلية.
اليهود من العلم إلى صناعة التطبيع
كان اليهود يرغبون في نبي يقاتل معهم العرب ويستنصرون به، لكنهم صدموا أنه عربي فانقلبوا وكفروا رغم علمهم بنبوته، فجاءت النبوة وأسلم العرب، لكن اليهود رغم هزيمتهم في الأحزاب واستئصال شوكتهم، مضوا بعد قرون في الانزواء والانكفاء في الحارات والملاحات والجيتو والأطم القذرة، يخططون ويفكرون، حتى جاءت دولتهم المزيفة التي جمعتهم بـ«وعد بلفور»، ثم جمعوا العرب المنافق معهم في صفقات مثل «أسلو» و«صفقة القرن» و«قمة النقب» و«العقبة»، و«المنامة» من أجل استئصال مشروع التغيير وإرث النبوة، بعدما كان أجدادهم يستفتحون ويستنصرون بولادة نبي منهم يقاتل معهم العرب، فإذا بهم يستنصرون اليوم بعرب منافقين خونة مطبعين من أجل استئصال مشروع إخوان النبي صلى الله عليه وسلم في فلسطين وغزة والمنطقة.
في رواية قتادة نرتشف صفات اليهود العلمية والبحثية في معرفة قوة النبوة وتخوف من وجودها والسعي للتطبيع معها بعد بعثة وظهور من أجل تصفية العرب، لكن مضت قرون وقررت اليهودية ثم معها الصهيونية الحديثة بالتطبيع مع العرب لتصفية مشروع النبوة في فلسطين وغزة والمنطقة والأمة.
ذكر قتادة رضي الله عنه عن رجل من الأنصار، ذكره الألباني في كتابه «صحيح السيرة النبوية»، فقال: «إن مما دعانا إلى الإسلام -مع رحمة الله تعالى وهداه لنا- أن كنا نسمع من رجل من اليهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89).
لنركز على عبارة الصحابي رضي الله عنه «وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا»، معناه أن اليهود كان لهم علم وبحوث وقراءات وسبر أغوار تاريخ وأزمان، وهو العلم الذي يجهله العرب (علم ليس لنا)، وهو نفس العلم الذي أقنع به اليهود العرب والأحزاب، فتحول العلم إلى كذب وبهتان وادعاءات وصناعة أكذوبة عن «خطورة النبوة والمدينة على مشروع قريش وسلطة العرب والأحزاب»؛ سعياً لتحقيق «ناتو» تطبيع عسكري يهودي عربي سياسي، وهي نفس الإستراتيجية الصهيونية الموروثة من أجل التطبيع وإقناع العرب بحرب شاملة مخربة قاتلة مقوضة لمشروع النبوة في المدينة المنورة والدولة الإسلامية.
التطبيع والخشية من طوفان المعنى
في المنطقة بركتان؛ بركة فلسطين، وبركة هذه الشعوب العربية والإسلامية، والخوف كل الخوف في خلدهم ودراساتهم واستخباراتهم الصهيونية والتطبيعية العربية هو انفجار كبير سياسي عسكري من فلسطين وغزة يفجر المنطقة إقليمياً.
لكن أرباب التفكير الصهيوني والغربي يفكرون في أعمق من ذلك، يخشون من انفجار أشد من السياسي والعسكري، إنهم يخشون انفجار بركات فلسطين وغزة الإيمانية وانتقالها إلى المغرب وطنجة وتونس والجزائر والأردن والشام ولبنان واليمن وباقي الشعوب، فتتحول إلى بركة ثانية قد نالت البركة الأم من مركز البركة فلسطين وغزة.
إنهم يخشون من طوفان المعنى أكثر من المبنى، من طوفان القيمة المُغَيِّر للإنسان أكثر من طوفان الميدان.
يخشون من المسبب لا النتيجة، يخشون من مشروع بناء الطوفان ورجال الطوفان وهو مشروع القرآن الذي أظهر أن الأمة كانت تنتظر الخروج من معركة الغثائية والأعرابية، إلى الجدية والفتوة والكينونة مع الأمة والقرآن حيث دار، ورغبت الأمة سُنة الله لا شرعة الحكام المطبعين الذين صنعوا رفقة المشروع الصهيوني دين أبراهـام لهدم الدين المجدد للروح والعقل والحركة.
يخشون من تسرب طوفان «صفوة القرآن والحفاظ» ومشروع غزة التربوي أن يتغلغل بتدرج في الشعوب فتستعيد دينها الحقيقي الجامع بين العبادة والعلم والتغيير دون دروشة وانكفاء، من أجل ذلك فكروا في احتلال ثان وهو التطبيع قبل الطوفان وبعده، ينوب عن الاحتلال الصهيوني لإيقاف صناعة هذا الجيل بتربية وأسس روحية خارج فلسطين، ففكروا في احتلال ثان في شخص (يسمى «التطبيع») فكان التطبيع إستراتيجية احتلال.