في اليوم التاسع من ذي الحجة، وفي السنة العاشرة من الهجرة، وعلى جبل عرفات، وأمام أكثر من مائة ألف مسلم، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في الناس، مقرراً قواعد الإسلام ودعائمه في حجة الوداع،
وإن الدارس لتفاصيل هذه الخطبة العظيمة يقف على روائع المقاصد العظيمة في الدعوة إلى السلام ونبذ الصراع، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: التأكيد على حرمة الدماء والأموال والأعراض:
إن التجاوز في واحدة منها أو التعدي عليها يعد مصدراً حقيقياً للنزاع والصراع بين الناس، ولهذا أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عن حرمتها في خطبة الوداع، ففي صحيح البخاري، ومسلم عن أبي بكرة نفيع بن الحارث، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقالَ: «ألَا تَدْرُونَ أيُّ يَومٍ هذا؟»، قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، فَقالَ: «أليسَ بيَومِ النَّحْرِ؟»، قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: «أيُّ بَلَدٍ هذا؟ أليسَتْ بالبَلْدَةِ الحَرَامِ؟»، قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: «فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَعرَاضكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟»، قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ».
ثانياً: النهي عن الاقتتال بين المسلمين:
حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يؤدي الاختلاف بين المسلمين في وجهات النظر أو المقاصد التي يسعون إليها إلى تكفير بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً، بل لا بد أن تبقى الأخوة الإسلامية بينهم، ولا تمتد أياديهم إلى بعضهم أو ترفع سيوفهم على إخوانهم بالقتل.
ففي صحيح البخاري عن جَريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَهُ في حَجَّةِ الوداعِ أنْ يَأمُرَ النَّاسَ بالإنصاتِ والإصغاء إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والاستماعِ إلى ما سَيَقولُه لهم بقلْبٍ حاضرٍ وأُذُنٍ واعيةٍ، فلمَّا أنْصَتوا خَطَبَ فيهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحذَّرَهم أنْ تَحمِلَهم العداوةُ والبَغضاءُ فيما بيْنهم على استحلالِ بَعضِهم دِماءَ بعضٍ، فقال: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
ثالثاً: التأكيد على الأخوة الإسلامية وعدم التعدي على حقوق الآخرين:
إن انفكاك المسلم من قيد الأخوة قد يدفعه إلى الصراع مع الآخرين، كما أن تمسكه برباط الأخوة يستلزم العفة عما في يد أخيه وعد التطاول عليه أو أخذه منه بغير طيب نفس، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في خطبة الوداع فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ، تَعَلَّمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إخْوَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لأمرئ مِنْ أَخِيهِ إلَّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، فَلَا تَظْلِمُنَّ أَنَفْسَكُمْ».
رابعاً: القضاء على أسباب الصراع في الجاهلية:
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على قطع الصلة بأسباب الصراع التي كان المجتمع يعاني منها، وهي الأخذ بالثأر والتعامل بالربا، ويدل على ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «أَلَا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِن دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ، كانَ مُسْتَرْضِعًا في بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا؛ رِبَا عَبَّاسِ بنِ عبدِالمُطَّلِبِ، فإنَّه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»، وهاتان ظاهرتان كانتا قد شاعتا في مجتمع الجاهلية، وكان النزاع والصراع يقع بين الناس بسببهما، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على القضاء عليهما، من أجل إنهاء الصراع.
خامساً: حسن معاملة النساء والوفاء بحقوقهن:
النساء شقائق الرجال، وقد يشيع في بعض المجتمعات التهاون في بعض حقوقهن بل التعدي عليهن وظلمهن، مما يؤدي إشعال نار الصراع بين الرجال والنساء، وإبراز الحركات التجمعية للنساء أو الرجال في المطالبة بالحقوق أو التخلي عن الواجبات.
ولهذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على حماية الأمة الإسلامية من هذا الصراع المجتمعي، حيث أكد في خطبة الوداع الوصية بالنساء، وأوضح الحقوق والواجبات للرجال والنساء، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ، فإنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عليهنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فإنْ فَعَلْنَ ذلكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ علَيْكُم رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمَعروفِ».
سادساً: التنبيه إلى عداوة الشيطان:
إن الشيطان عدو الإنسان، ويحرص على إشعال نار الصراع بين الناس، قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (فاطر: 6)، وقال عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) (المائدة: 91)، ولذلك حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم منه في خطبة حجة الوداع، ففي صحيح مسلم عن سيدنا جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ».
سابعاً: الاعتصام بكتاب الله وسُنة رسوله:
فيهما الوقاية من الصراع والعلاج الناجع له، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن التمسك بهما يعصم من الوقوع في الضلال، فقد أخرج الْبَيْهَقِيّ عَن عُرْوَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع: «أَيهَا النَّاس، اسمعوا مَا أَقُول لكم، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لعَلي لَا ألقاكم بعد عَامي هَذَا فِي هَذَا الْموقف، أَيهَا النَّاس، اسمعوا قولي فَإِنِّي قد تركت فِيكُم مَا أَن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ لن تضلوا كتاب الله وسُنتي».