واجه الفكر الإسلامي في السنوات الأخيرة جملة قضايا حملتها المتغيرات الاجتماعية والانفتاح على الآخر من قبيل: الإجهاض، والمثلية والمساواة في الإرث وما إلى ذلك من قضايا بات لزاماً خلق أو تطوير خطاب فقهي بشأنها وتأسيس مقاربات أخلاقية في مقابلة الأطروحات المضادة.
وفي السطور التالية، نناقش قضيتين تم إثارتهما مؤخراً، وهما: قضية المساواة في الإرث، وقضية قسمة الأموال المكتسبة حال قيام الزوجية بين الزوجين، ووقع اختيارنا عليهما لفرضهما قانونياً في بضع بلدان، وتجري محاولات لتعميمهما في كافة بلدان العالم الإسلامي.
أولاً: المساواة في الإرث:
هي دعوة قديمة أخذت تظهر وتختفي، إلا أنها اكتسبت أهمية وأولوية مع دعوة الرئيس التونسي عام 2018م إلى جعلها تشريعاً ملزماً، والأساس الذي بُني عليه القول بالمساواة هو تاريخية النصوص؛ أي أن فهم التشريعات الإسلامية لا يكون إلا ضمن الإطار التاريخي والسياق الاجتماعي لها في الجزيرة العربية، فالأحكام الشرعية مرتهنة بالشروط الاجتماعية والتاريخية التي نزلت فيها، وبالتالي إذا تغير الزمن يجب تغيير الأحكام، من جانب آخر يندرج الميراث تحت الأحكام الاجتماعية وليس من الشعائر التعبدية؛ أي أنه من المعاملات وليس من العبادات أو العقائد الأساسية، وباب المعاملات في الفقه يجوز الاختلاف فيه واعتماد بعض القواعد الفقهية المختلف حولها.
وإزاء ذلك، عملت دور الفتوى الإسلامية على بيان الرأي الشرعي في المسألة، فذهبت دار الإفتاء المصرية في فتواها رقم (4633) المؤرخة في ديسمبر 2018م، أن حق المرأة ينبغي النظر إليه من جهتين:
الأولى: أنَّ الله تعالى هو الذي حدَّد أنصبة المواريث وقدَّر فرائضها؛ لذلك سمي هذا العلم بـ«بعلم الفرائض».
الثانية: أن تحديد أنصبة الوارثين ليس مبنياً على نوع الجنس الوارث، وإنما بناء على 3 عوامل: قوة القرابة، والامتداد والبعضية، وحجم المسؤولية، فإذا تساووا في قوة القرابة والامتداد والبعضية، كان عامل المسؤولية سبب الزيادة في الميراث.
وأضافت أن دعوى الاجتهاد في فهم الآيات كلام باطل؛ لأن مسائل الميراث على نوعين:
أ- نوع انعقد الإجماع عليه وأصبح معلوماً من الدين بالضرورة.
ب- نوع لم ينعقد عليه الإجماع؛ فالأمر فيه واسع، واختلاف الفقهاء فيه رحمة.
ونص الآية الكريمة: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء: 11) مندرج تحت النوع الأول، وهو ما انعقد عليه الإجماع؛ لا اجتهاد فيه، ولا يتغير بتغير العصر أو تطاول الزمن.
ثانياً: قسمة الأموال المكتسبة مدة الزوجية بين الزوجين:
تعالت في العصر الحاضر الدعوات التي تطالب بقسمة الأموال المكتسبة حال قيام الزوجية بين الزوجين عند الطلاق أو وفاة الزوج، وقد قننت بعض الدول الإسلامية هذا الوضع كما هي الحال في المغرب وماليزيا وتركيا، وهناك مساع حثيثة تبذل في دول أخرى لإقراره بحجج مختلفة، والرأي بشأنها ينقسم بين مؤيد ومعارض، ويستند كل فريق إلى حجج شرعية تؤيد ما ذهب إليه.
1- القائلون بجواز قسمة الأموال:
يستندون في دعواهم إلى عدد من الأدلة الشرعية التي يمكن تلخيصها في الآتي:
– العرف: العرف دليل شرعي يحتج به في المسائل القديمة والحديثة، ولا خلاف بين المذاهب الفقهية في ذلك، واستناداً إلى العرف يدعي الفقهاء الماليزيون أن تقسيم المال المشترك المعروف باسم «هارتا سبنجريان» من العرف المعمول به لدى الشعب الملايوي، وأن الناس تعارفوا على هذه العادة قبل تقنينها فعلياً، وكذلك يذهب المغاربة إلى أن القسمة من عمل أهل سوس من قديم الزمان وليست عادة مستحدثة.
– الكد والسعاية: وهو مصطلح لدى المالكية، ويعني حق المرأة في الثروة التي ينشئها ويكونها زوجها خلال فترة الحياة الزوجية، ويستند هذا الحق إلى دليلين؛ الأول: قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحبيبة زوجة عامر بن حارث بأن ترث نصف ثروته بعد وفاته لأنه كان قصاراً وكانت تساعده في عمله، والربع ميراثاً لأنه لم يترك ذرية، والثاني: فتوى محمد بن الحسن بن عرضون الذي سئل عن نساء البوادي اللواتي يشاركن أزواجهن في الزرع والحصد، هل لهن حق في الزرع بعد وفاة الأزواج أم لهن الميراث وحسب، فأفتى بقسمة الزرع على الرؤوس.
2- القائلون بعدم الجواز:
يبنون رأيهم على سلسلة من الأسانيد النصية والواقعية، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
– النصوص المتواترة: وهي كثيرة ومتعددة، ومنها قوله تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) (النساء: 32)، وهو نص في جعل نصيب الرجال للرجال والنساء للنساء واختصاص كل جنس بكسبه وانفراده، وقوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم: 39)، (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا) (الأنعام: 164)، (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286)، وكلها تدل على اختصاص كل واحد بكسبه، مفيدة للحصر ودالة عليه.
– ما جرى عليه العمل في العصر النبوي: ثبت بالتواتر المعنوي طلاق الصحابة لزوجاتهم في حياته صلى الله عليه وسلم، وأن واحدة منهن لم تقاسم زوجها أمواله التي كسبها قبل الزواج أو بعده، كما أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يقاسمها أمواله، كما ثبت أن أسماء بنت أبي بكر ساعدت زوجها الزبير بن العوام في أعماله وكانت تسقي فرسه وتحمل النوى على رأسها إلى أرضه وتطحن الدقيق وما إلى ذلك من وجوه الإعانة لزوجها ولم تطلب مقاسمته في ماله ولم يفرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم مالاً نظير ذلك.
– الأدلة الفقهية: هناك عدد منها يدحض ادعاءات القائلين بالجواز، وأولها أن الزواج ليس شركة حتى تمنح الزوجة حق السعاية؛ لأن الشركة لها أركان وشروط، وأهم أركانها الإيجاب والقبول، وهو ما لا يمكن القول بتحققه، لأنهما لم يعقدا أي شركة بينهما عند النكاح ولم يتراضيا إلا على النكاح، والفقهاء يقولون: إنه لا يجوز الجمع بينهما؛ لأن النكاح مبني على المكارمة والتأبيد، والشركة مبنية على المكايسة فلا يجتمعان، وثانيها: أن الزوجة السارقة لمال زوجها تُقطع يدها، والعكس صحيح، فلو كان مالهما واحداً لما قطع يد السارق منهما، كما تقرر جواز وهبة كل منهما للآخر، وهو ما يؤكد أن كل منهما يختص بماله لا يشاركه فيه الآخر.
– تفنيد فتوى ابن عرضون: ذهب محمد التاويل، الأصولي المغربي، إلى أن المتتبع للفتوى يلاحظ فيها بعض الاضطراب، فهي منسوبة لابن عرضون، وبنو عرضون كثيرون، وهناك خلاف حول من صاحبها، وهي فتوى محدودة في مكانها وموضوعها، فهي خاصة بنساء البوادي دون المدن، وبالنساء العاملات عمل الرجال في الفلاحة، وموضوعها خاص بالزرع الذي يحصدنه، وهي تختص بحالة الطلاق ولا تمتد لتشمل استمرار الزوجية أو وفاة الزوج.
وهناك فتاوى تعارض هذه الفتوى مثل فتوى الشيخ أحمد البعل (شيخ ابن عرضون) الذي قال: لم أزل أستثقل القسمة على الرؤوس إذ هي خارجة عن الأصول، وفتوى عبدالقادر الفاسي الذي حمل على ابن عرضون، وذكر أن فرائض الله تعالى قسمها بنفسه فلم يبق فيها نظر ولا اختيار، وهو شعار يصح أن يرفع في وجه كل من يبتغي تغيير أحكام الله الثابتة.