مما يلفت النظر في أعقاب العبادات والشعائر الإسلامية الكبرى، وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج، أن الله تعالى بعد أن أمر بها في القرآن الكريم، حث عباده الذين أقاموها على مداومة ذكر الله تعالى بعدها، فما المواضع التي أمر الله تعالى فيها عباده بذكر الله بعد أداء الشعائر التعبدية الكبرى، وما دلالة ذلك؟
أولاً: المواضع التي أمر الله عباده فيها بمداومة الذكر بعد أداء الشعائر التعبدية الكبرى:
1- لقد أمر الله تعالى بالذكر بعد الصلاة في قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) (النساء: 103)، وقال عز وجل: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)، وفي الحديث الشريف تأكيد على أن المسلم يذكر الله بعد الصلاة ويدعو الله أن يعينه على الذكر، ففي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: «يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ»، ثم قالَ: «أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ».
2- أمر الله تعالى بالذكر بعد إيتاء الزكاة في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103)، ومعنى «وصل عليهم»؛ أي: استغفر لهم وادع الله لهم، والاستغفار والدعاء من الذكر.
3- أمر الله تعالى بالذكر بعد الصيام في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185)، ففي قوله «ولتكبروا الله» دعوة إلى ذكر الله.
4- أمر الله تعالى بالذكر بعد الحج في قوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199} فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ {200} وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201} أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {202} وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة).
ثانياً: الدلالات المستنبطة من الأمر بالذكر بعد العبادات:
يعد الذكر من أعظم العبادات عند الله تعالى، حتى إن بعض العلماء يؤكدون أن العبادات قد شرعت أصلاً لإقامة ذكر الله تعالى، حيث قال الله عز وجل: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت: 45)، وقال سبحانه وتعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود: 114)، وقال أيضاً: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (طه: 14)، وفي الأضاحي والذبح، قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ {34} الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحج)، ومن هنا يتبين أن الذكر لله تعالى مقصد من مقاصد العبادات، ولهذا أمر الله به في أعقابها.
ومن الدلالات المستنبطة للذكر بعد العبادات أن ذلك يؤدي إلى دوام الصلة بين العبد وربه، فلا ينقطع عن العبادة أبداً، فالعبادة ذكر لله تعالى، والذكر بعدها عبادة له سبحانه وتعالى.
كما أن المقصد من العبادة هو راحة النفس واطمئنان القلب، ويدل على ذلك ما كان منه صلى الله عليه وسلم حين كان يقول: «يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها»، وعن حذيفة قال: كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى، يعني إذا أهمه أمر فزع إلى الصلاة، ففيها الراحة والطمأنينة، وقد أمر الإسلام بالذكر بعد العبادة لأنه سبيل إلى اطمئنان القلب وسكينة النفس، حيث قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
ونظراً لهذه الصلة العظيمة بين الذكر والعبادات، وهذه القيمة الكبيرة للذكر، فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم خير الأعمال، فقد أخرج الترمذي، وابن ماجه، وأحمد عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مليكِكُم، وأرفعِها في درجاتِكُم، وخيرٌ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخيرٌ لَكُم من أن تلقَوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقَكُم؟»، قالوا: بلَى يا رسول الله، قالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى»، وأخرج الترمذي عن عبدالله بن بسر أن رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ».
فلنداوم على ذكر الله في كل أحوالنا، ولنكن من أولي الألباب، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 191).