تعد الوحدة من أهم عوامل بناء الأمة الإسلامية وقوتها، فقد جعل الله أمة الإسلام واحدة، حيث قال عز وجل: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وتسهم صلاة الجماعة في بناء هذه الوحدة وحمايتها، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: الاتحاد على صوت واحد:
لقد أمر الله المسلمين أن يذهبوا إلى المسجد عند سماع صوت الأذان، فإذا أذن المؤذن نهض المسلمون من كل ناحية، واجتمعوا في مكان واحد، يضمهم شعور واحد، هو اتباع الأمر وتنفيذه، وطبقاً لهذا الشعور يقوم الجميع بعمل واحد؛ وهو الصلاة، ويتركون بقية الأعمال التي تجعلهم متفرقين، فكأن الصلاة تنادي كل واحد من عمله، وتجمعهم في عمل جديد يوحد بينهم في حركاتهم ومشاعرهم وأهدافهم.
ثانياً: الغاية الواحدة:
حين يسمع المسلمون النداء للصلاة يجتمعون في المسجد، وفي هذا الاجتماع تظهر فوائد عديدة، فحين تجتمعون معاً؛ يرى بعضكم بعضاً، ويتعرف بعضكم على بعض، وهنا يمكن أن نتساءل: بأي صفة تتم هذه الرؤية ويحدث هذا التعارف؟ تتم بصفتكم عبيداً لله، بصفتكم أتباع رسول واحد، تؤمنون بكتاب واحد، هذه المعاني تسهم في تعميق فكرة كونكم جميعاً أمة واحدة، وجنود جيش واحد، بعضكم إخوة لبعض، أهدافكم وغايتكم واحدة، مغانمكم أو خسائركم مشتركة، وحياتكم جميعاً مرتبطة برباط قوي هو رباط الإيمان.
ثالثاً: التعاطف بين الجميع:
في المسجد ينظر المسلم إلى أخيه الذي لبى نداء الصلاة نظرة واضحة جليه، وهي رؤية لا تكون كرؤية العدو للعدو، بل تكون كرؤية الصديق لصديقه، والأخ لأخيه، والمحب لمحبوبه، وحين ننظر من هذه الزاوية نشاهد أن بعض الإخوة والأصدقاء يلبسون ثياباً قديمة ممزقة، وبعضهم أصابه الحزن فبدا واضحاً على ملامحه، وآخر مضطرب، وغيره مريض، هنا تنطق القلوب بالرحمة وتنادي بالتعاطف وتتحرك باتجاه التكافل معنوياً ومادياً، حيث يقوم الأغنياء بمساعدة الفقراء، ومواساة البؤساء.
وإذا أصاب أحدهم مرض أو نزلت به مصيبة فلم يأت إلى المسجد شعر الجميع بوجوب عيادته وزيارته، وإذا وصل نبأ عن وفاة أحد؛ اجتمع الجميع وشاركوا في جنازته، وشارَكوا أقاربه وأحبابه أحزانهم، كل هذا يؤدي إلى تعميق قيم المحبة والتعاطف والمشاركة والتعاون، وكلها ناتجة عن صلاة الجماعة.
رابعاً: الاجتماع على هدف طاهر:
حين يجتمع المسلمون لأداء صلاة الجماعة إنما يجتمعون في مكان طاهر، ومن أجل هدف طاهر، فهذا الاجتماع لا يضم اللصوص ولا السكارى ولا المقامرين الذين امتلأت قلوبهم بنوايا سيئة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء: 43)، بل إن هذا الاجتماع يكون لعباد الله الصالحين، في بيت الله الطاهر، من أجل عبادته سبحانه وتعالى، حيث يحضر الجميع للإقرار والاعتراف بالعبودية لله، حيث ينتاب المؤمن إحساس بالخجل بسبب ما اقترفه من ذنوب وخطايا، فيعلن التوبة والعودة إلى الله تعالى، وهو يخاف من عقابه ويرجو رحمته.
ومن مظاهر هذا الهدف الطاهر الذي يلتقي عليه المسلمون في المساجد أن أحدهم حين يجد خطأ وقع فيه الآخر؛ فإنه لا يهجم عليه أو يؤذيه أو يتطاول عليه بالسب أو القذف أو الضرب، بل تسود روح المودة والمحبة والرحمة فتأتي النصيحة بينهما في هدوء وسكون، وإذا قام بها الإمام فإنه لا يذكر أسماء من فعلوها أو يشير إليهم بسوء، بل يذكرها تحت قاعدة: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا»، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا بلغَه عن الرجلِ الشيءَ، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقولُ، ولكن يقولُ: «ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا»(1).
إن هذه النصيحة الخالصة في هذا المكان الطاهر تهدف إلى غاية طاهرة ونظيفة، وهي إصلاح النفوس من غير أن تصاب بالأذى، وهنا يحرص كل مسلم أن يصلح شأن الآخر ويبعد السوء عنه، بل يكمل الواحد منهم ما ينقص الآخر، فتصبح الجماعة بأكملها جماعة خير وصلاح.
خامساً: الأخوة والمساواة:
إن من بركات الاجتماع في المسجد لأداء صلاة الجماعة أن المسلمين يقفون في صفوف متراصة متساوية ليس بينهم كبير أو صغير، وليس فيهم من هو أعلى درجة أو أدنى درجة من غيره، فالجميع متساوون أمام الله، ليس بينهم فرق عائلي أو قبلي، ولا يفرق بينهم اختلاف الوطن أو اللغة، وهذا يجسد معنى الأخوة بين المسلمين، هذه الأخوة التي تؤسس للوحدة الإسلامية في أسمى صورها.
إنها الأخوة التي ينادي بها الإمام عند تسوية الصفوف، فيذكر الناس بما بينهم من أخوة ووحدة؛ فعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الصلاة: «أَقيموا الصفوفَ وحاذُوا بالمناكبِ وسُدُّوا الخَلَلَ، ولِينوا بأيدي إخوانِكم، ولا تذَرُوا فُرُجاتٍ للشيطانِ، ومن وصل صفًّا وصلَهُ اللهُ، ومن قطع صفًّا قطعَه اللهُ»(2).
سادساً: التماثل في الأفعال:
يقف المسلمون في صلاة الجماعة صفاً واحداً، وقد تساوت الصفوف المؤمنة والتحمت الأجساد الطاهرة، وتماثلت الحركات، فالتكبير للجميع، والقيام للجميع وقراءة «الفاتحة» للجميع، والركوع للجميع والسجود للجميع، والسلام للجميع، لا يمكن لأحد من المصلين أن يخالف الإمام أو يسبقه، وإلا بطلت الصلاة(3).
كل هذا التماثل يهدف إلى بناء الوحدة الإسلامية بين الناس، ويحميها من كل ما قد يعتريها من الخلاف أو النشوز من بعض الأفراد، فجاءت صلاة الجماعة ضابطة للجميع.
سابعاً: الوحدة في الدعاء:
لقد جعل الله تعالى بعض الأدعية في الصلاة واحدة للجميع، من أجل أن يوحّد بين قلوبهم كما وحّد بين أبدانهم، ففي قراءة سورة «الفاتحة» يتجلى الدعاء الواحد، فالجميع يتجه إلى الله تعالى به، حيث قال عز وجل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) (الفاتحة) فقد جاءت بصيغة الجمع لا الإفراد، فلا يقول المسلم: إياك أعبد وإياك أستعين، اهدني الصراط المستقيم، بل يقولها بالجمع، كما جاء في الآية الكريمة.
وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع قائلاً: سمع الله لمن حمده، فإن الجميع يقولون: ربنا لك الحمد، بصيغة الجمع «ربنا» ولا يقول أحد: ربي لك الحمد، وفي التشهد نقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فكل هذه الأدعية المشتركة تعني أن كل مسلم يحب الخير لإخوانه ويدعو لهم به، مما يؤكد الوحدة بينهم.
ثامناً: صلاة الجماعة لا بد لها من إمام:
إن صلاة الجماعة تغرس في النفوس التربية على الوحدة والاجتماع لا التفرق والصراع، فإذا اجتمع شخصان للصلاة فإنهما لا يصليان منفردين، بل يصلي أحدهما إماماً والآخر مأموماً، وإذا اجتمع عدد كبير فإنهم لا ينقسمون إلى عدد من الجماعات، بل يأتمون جميعاً بإمام واحد، ويصلون جميعاً خلفه.
وهذا يلقي في قلوبهم ونفوسهم أنهم أمة واحدة وجماعة واحدة، حتى إذا خرجوا من الصلاة إلى معترك الحياة فإنهم يحملون معهم هذا الشعور الذي يقضي بأنهم أمة واحدة خلف إمام واحد، وهذا هدف إسلامي أصيل يسعى إلى جمع كلمة المسلمين ووحدة صفوفهم.
_________________
(1) أخرجه أبو داود في السنن (4788).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (5724).
(3) راجع خطب الجمعة، المودودي، ص 94.