لما ولي الخلافة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، دعا سالماً بن عبدالله، ومحمداً بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، وقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليَّ، فقال له سالم بن عبدالله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت، وقال له محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت(1).
ولما ولي الخلافة هارون الرشيد أتاه الفضيل بن عياض، فلما دخل إليه وسلّم عليه قال: أواه من كف، ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله تعالى، ثم قال له: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة»(2).
هذان موقفان من مواقف العلماء مع الخلفاء في الحضارة الإسلامية، وفيهما تجسيد لعدد من الدروس والقواعد المهمة في السياسة الشرعية مع الرعية، وبيانها فيما يأتي:
أولاً: إصلاح العلاقة بين العلماء والخلفاء:
لقد تميزت عصور القوة في التاريخ الإسلامية بحسن العلاقة بين العلماء والخلفاء، فإن العلاقة الحسنة بينهما تسهم في ضبط كثير من الأمور، فالعلماء الصادقون يمتلكون القوة والجرأة التي تمكنهم من إسداء النصيحة إلى الحاكم دون خوف أو وجل، ودون طمع في المال أو المنصب.
ويدل على هذا ما كان من هارون الرشيد حين نصحه الفضيل بن عياض، فبكى هارون وقال للفضيل: عليك دين؟ قال: نعم! دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي.
قال: إنما أعني من دين العباد، قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال له هارون: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادتك، فقال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك.
ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون لخادمه: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين(3).
هذا النوع من العلاقة بين الحكام والعلماء هو المطلوب في إصلاح أحوال الرعية، فإن الناس يسألون العلماء ويستفتونهم في أمور دينهم ودنياهم، وهذا يجعل العالم على معرفة ودراية بأحوال لا يعرفها الحاكم حتى وإن كان جاداً في رعاية أحوال الرعية، فإذا كانت العلاقة بين العلماء والخلفاء حسنة فإنها تفتح المجال أمام حل المشكلات وتوقي الأخطار التي قد تحدث في المستقبل.
ثانياً: صيام الحاكم عن الدنيا وزهده فيها:
إن سيطرة المطامع الدنيوية على قلوب بعض الحكام تدفعهم إلى مد أيديهم إلى ما ليس لهم من أموال الرعية، خاصة إذا لم يكن هناك حساب أو عقاب دنيوي، وتظهر هذه الأموال المنهوبة في حياة الخليفة وعلى أولاده وأهل بيته، مما يجعل الرعية في حالة من السخط عليه، وعدم الاطمئنان له، فضلاً عن دعاء الفقراء والمظلومين عليه، وترقب الشر والسوء به.
وهذا هو التحذير الذي حذّر منه التابعي الجليل سالم بن عبدالله الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز، حيث قال له: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت.
ولهذا حرص سيدنا عمر بن عبدالعزيز على عدم الاقتراب من أموال المسلمين، بل إنه تحلل من بعض الأموال الخاصة لبيت مال المسلمين، حذراً من الشبهة وحماية لنفسه وأهله من مال المسلمين العام ومن التطلع إلى متاع الدنيا، فقد جاء إلى زوجته فاطمة بنت عبدالملك حين تقلد الخلافة، وكان له جوهر (ذهب)، فقال لها: من أين صار هذا إليك؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى بيت المال وإما أن تأذنيني في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت، قالت: لا بل أختارك على أضعافه لو كان لي، فوضعته في بيت المال(4).
ويضاف إلى ذلك أنه امتنع عن أخذ الهدايا والهبات، فقال له بعض الناس: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، فقال: بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة(5).
كما أنذر ولاته وعماله من أن يتخذ أحد منهم تلبية طلبات الخليفة أو أحد من أهله شيئاً مسلماً به، ومن ذلك ما حدث عندما أرسلت فاطمة بنت عبدالملك إلى ابن معدي كرب تطلب عسلاً من عسل لبنان أو سيناء، فبعث إليها العسل، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز يقول له: وايم الله، لئن عدت لمثلها لا تعمل لي عملاً أبداً، ولا أنظر إلى وجهك(6).
ثالثاً: مراعاة السن والمقام في التعامل مع الرعية:
إن الرعية فيهم الصغير والكبير والعالم والجاهل والتاجر والصانع والزارع وغيرهم من أصناف الناس وأعمالهم وأحوالهم، وهذه الأصناف المتنوعة لا تصلح معها طريقة واحدة في التعامل، بل لا بد من مراعاة الأحوال، ومخاطبة كل صنف منهم على قدر عقله وبما يراعي حاله ومقامه.
رابعاً: أن يحب الراعي للرعية ما يحب لنفسه:
إذا أحب الراعي رعيته فإنه يفكر لهم ويسهر على رعاية شؤونهم ويحب الخير لهم ويدفع الشر عنهم، فهم منه وهو منهم، فإذا فعل ذلك وأحس الرعية به من خلال أفعاله ومشاركته لهم، فإنهم يحبونه ويفدونه بأموالهم وأنفسهم، وهذا ما قصده التابعي الجليل رجاء بن حيوة في نصحه للخليفة عمر بن عبد العزيز، حيث قال له: «إن أردت النجاة من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك».
خامساً: الحذر من غش الرعية:
إن آفة بعض الحكام أن يظن أن تقلد الولاية يعني أن الدنيا كلها أصبحت ملكاً له، يتصرف فيها بلا رقيب ولا حسيب، فيحقق مطامعه ومطامع من حوله، ويغدق العطايا على من يخدمه ويتودد إليه، ويحرم من يعارضه أو يتجنب الدخول عليه، فيولي من يراه ثقة له وليس الأصلح للمنصب، ويعاقب من ينصحه حتى وإن كان صادقاً، ويرفع قدر من يداهنه أو يكذب عليه، وهذا كله غش للرعية وحرمان من الحقوق الأصيلة لهم.
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من غش الرعية، وأكد أن ذلك يؤدي إلى الحرمان من دخول الجنة، وهذا ما جاء في وصية العالم الجليل والتابعي النبيل الفضيل بن عياض حين نصح هارون الرشيد، قائلاً: إياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة».
________________________
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، (8/ 105).
(2) المستطرف في كل فن مستطرف، الأبشيهي، ص 92.
(3) حلية الأولياء (8/ 107).
(4) الطبقات الكبرى، ابن سعد (5/ 307).
(5) سيرة عمر بن عبدالعزيز، ابن الجوزي، ص 189.
(6) الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز، د. علي الصلابي، ص 289.