لقد استجاب حجاج بيت الله الحرام لنداء سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أمره الله تعالى بدعوة الخلق إلى أداء مناسك الحج بقول الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27)؛ فتوجهوا إلى بيت الله تعالى وفوداً وعماراً؛ «الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعُوهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ»(1)، فإذا ما أدى الحاج فريضة الله تعالى وجب عليه:
1- شكر الله تعالى الذي أعانه على هذه الفريضة، فهو القائل سبحانه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، وقال تعالى في أداء فريضة الحج: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 158)، وهكذا نجد الشكر بعد العبادات مؤكداً، فبعد فريضة الصلاة تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث سيدنا معاذاً بن جبل على الشكر فيقول له: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»(2).
2- الدعاء: كما يجب عليه أن يدعو الله تعالى بقبول حجه، وعلى مَن استقبل حجاج بيت الله الحرام أن يدعو الله تعالى لهم بأن يجعل الله تعالى حجهم مبروراً، فعن محمد بن كَعْب القُرَظيّ قال: «حَجَّ آدمُ عليه السَّلاَمُ فلقيتْه الملائكةُ فقالوا: بُرَّ نُسْكُكَ آدمُ لَقَدْ حَجَجْنَا قَبْلَكَ بِألْفَيْ عام»(3).
3- الوفاء بالوعد: فمن ذهب إلى بيت الله تعالى حاجاً فكأنما قطع العلاقة مع الشيطان ليجعل ولاءه لله وعهده مع الحق تعالى، فعن عكرمة، عن ابن عباس قال: «الحجر يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استلم الحجر فقد بايع الله ورسوله»(4).
فإذا كان المسلم حين خلقه الله تعالى قد عاهد ربه على طاعته سبحانه، فإن طوافه بالبيت الحرام تجديد للعهد الذي قطعه على نفسه حين خلقه الله تعالى، وصدق الوفاء مع الله بالطاعة له جل شأنه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الأحزاب: 23)، فمن نقض عهده مع ربه لن يُضار الله من تقصير عبده نحوه شيئاً.
فمن علامة قبول الطاعة مواصلة الطاعة بعدها وأحسن الحسنة، الحسنة بعد الحسنة، ومن علامات رد العمل على صاحبة عمل السيئة بعد الحسنة، فما ينبغي لحاج بيت الله الحرام إذا جدد العهد مع الله بالطاعة أن ينقض هذا العهد مع مولاه ويتبع هواه فيجد جهنم مأواه والنار مسكنه ومثواه.
4- استقبال الحجاج ومصافحتهم: حجاج بيت الله الحرام خرجوا من بيوتهم متجهين إلى الكعبة، مضحين بكل متع الحياة، محملين بالأوزار، غاية مرادهم أن يغفر الله لهم، وأن يتجاوز عن أخطائهم، فنفذوا تعاليم الله بكل دقة حتى يكون حجهم مبروراً فيعودوا إلى بيوتهم وقلوبهم خالية من أي إثم، وجوارحهم نقية من أي ذنب، فمصافحتهم بعد عودتهم من بيوت الله فإنما هي مصافحة لأياد طاهرة وقلوب نقية، فإذا ما دعوا لغيرهم استجاب الله لهم، فعن عائِشَةَ قالَتْ: «أقْبَلْنا مِن مَكَّةَ في حجٍّ أو عمرةٍ، فتَلَقَّانا غلمانٌ مِن الأنصارِ كانوا يَتَلَقَّوْنَ أهاليَهُم إذا قَدِموا»(5).
وعن ابن عُمَرَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «إذا لَقِيتَ الحاجَّ فسَلِّمْ عليهِ وصافِحْهُ ومُرْهُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لكَ قبلَ أنْ يَدْخُلَ بيتَهُ؛ فإنَّهُ مغفورٌ لهُ»(6)، وعن حَبيبِ بن أبي ثابِتٍ قالَ: خَرَجْتُ معَ أبي نَتَلَقَّى الحاجَّ ونُسَلِّمُ عليهِم قبلَ أنْ يَتَدَنَّسوا(7)، وعن الحَسَنِ البصري قالَ: إذا خَرَجَ الحاجُّ، فشَيِّعوهُمْ وزَوِّدوهُمُ الدُّعاءَ، وإذا قَفَلوا؛ فالْتَقوهُمْ وصافِحوهُمْ قبلَ أنْ يُخالِطوا الذُّنوبَ؛ فإنَّ البركةَ في أيديهِم، وعن موسى بن سعيد قال: قال عمر ألقوا الحاج والعمار والغزاة فليدعوا لكم قبل أن يتدنسوا(8).
5- عودة الحجاج تذكير بالعودة إلى الله تعالى: إن قاصدي البيت الحرام حاجين أو معتمرين يتجردون من ملابس المخيط ويرتدون الإزار والرداء الأبيض؛ وفي هذا تذكير بالكفن وخروج العبد من دنياه إلى لقاء ربه، وكذا عودة الحجاج من عند البيت الحرام إلى بيوتهم، فقد أدوا فريضة الحج ينتظرون الأجر والثواب من الله لهم والأجر والثواب الكامل لا يناله العبد إلا في الدار الآخرة، الدار الباقية التي لا فناء فيها، بل البقاء فيها خالد؛ (وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ) (العنكبوت: 64)، فكأن عودتهم هي انتظار لعودتهم إلى الله تعالى لتحقيق وعد الله لهم بالثواب والنعيم في جنة الله عز وجل.
قال سليمان بن عبدالملك لأبي حازم (سلمة بن دينار): كيف القدوم على الله غداً؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتد بكاؤه فقال: يا أبا حازم، كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعوا عنكم الصلف وتمسكوا بالمروءة وتقسموا بالسوية وتعدلوا في القضية، قال: يا أبا حازم، وكيف المأخذ من ذلك؟ قال: تأخذه بحقه وتضعه بحقه في أهله(9).
فشتان بين من يقول الله تعالى لهم: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (الأنبياء: 103)، ومن يقول لهم: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (الطور: 13).
وهكذا يتبين أن الحاج إذا ما أدى فريضة ربه وجب عليه أن يشكر الله تعالى على عونه له، ويكثر من سؤال الله قبول حجه، ولا ينقض العهد الذي عاهد عليه ربه، وأن يعلم أن الحياة الدائمة عند الله في الجنة، وأن العودة إلى الله تعالى أمر محتوم.
_________________________
(1) رواه ابن ماجه (1103).
(2) رواه ابن حبان (2020).
(3) رواه البيهقي في شعب الإيمان (3989).
(4) رواه الطبراني في الأوسط (567).
(5) رواه الحاكم (1796).
(6) رواه أحمد (5372).
(7) رواه أحمد (6018).
(8) ابن أبي شيبة (12651).
(9) حلية الأولياء (3929).