الهجرة ليست مجرد ذكرى تاريخية نحييها بالحديث عنها والتذكير بأسبابها ومعطياتها وأحداثها ونتائجها فحسب، بل إن الهجرة أعمق أثراً في واقعنا، ومنهجية حياة، وحمل رسالة، وتحرر من قيود الظلم والإجحاف، وهي بمثابة ميلاد جديد للأمم والمجتمعات والتيارات والأفراد، وذلك لأن الهجرة كانت على مدار العصور والأزمنة سُنة الدعوات، ومنهجية الأنبياء، وسَمْت العلماء، وستظل الهجرة معلماً من معالم التحرر، والتخلص من قيود الطغيان والاستبداد بغية الوصول إلى رحابة الفكر وحرية الاعتقاد، وتحقيق كرامة الإنسان.
الأرض كلها مساحة التكليف
حينما كلف الله تعالى عباده بالاستخلاف في الأرض وإقامة الدين وصناعة الحياة وفق مراده سبحانه، لم يلزمهم بمكان بعينه، أو لون بذاته، ليحققوا فيه تلك العبادة، بل كانت الأرض كلها ميداناً للتكليف، حتى لا يكون لأحد عذر بتقصيره في القيام بمهمته في الأرض، قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت: 56).
الهجرة حرب على الاستضعاف
الهجرة في القرآن حرب على الاستضعاف، ومقاومة للباطل والاستخفاف، وتكريم للإنسان وحمايته من كل صور الاجحاف، فلم يرض القرآن للمسلم أن يعيش مجرد حياة، ولكن أرشده إلى ضرورة أن يستعلي بإيمانه على كل طغاة الأرض، فيحيا عزيزاً بدينه، مُكرماً بصدق عبوديته لربه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 97).
الوطن حيثما وجدت الكرامة والعدالة
الوطن الحقيقي ليس فقط هو مكان الميلاد، أو موطن النشأة الأولى، بل إن كل مكان على وجه الأرض يتحقق فيه شرطان هو الوطن، مهما تباعدت الديار، أو اختلفت اللغات؛ الأول: تحقيق الكرامة والكفاية للإنسان، كما روي عن سيدنا عليّ رضي الله عنه: «وطنك ما حملك»، فالأوطان وسائل للتكريم، وليست مجرد أسماء ورايات وأعلام، والثاني: إقامة العدل وعدم الخضوع للاستبداد والطغيان؛ لذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهاجر من مكة بسبب كفر أهلها، بل هاجر بسبب ظلمهم، ولم يأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لإيمان حاكمها بل لعدالته، ولم يهاجر إلى المدينة لانتشار الإسلام فيها حينئذ، ولكن لتوفر الأمان، والحماية من سطوة الطغيان، فحيثما وجد العدل كان الوطن.
الهجرة شهادة تكريم وتشريف
والقرآن كذلك لم يُعد الهجرة مصاباً يستحق العزاء، أو كارثة تستوجب الرثاء، ولم يعدها كذلك نقصاً في المسلم، أو هروباً أو هزيمة نكراء، ولم يعدها نفياً وتغريباً، أو خزياً وتحقيراً، بل على العكس تماماً، ذكرها القرآن في موطن التشريف لأهلها، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 218).
فالهجرة دلالة تحقق الإيمان، فليس أصدق من أن يترك الإنسان بلده وأهله وعشيرته وتجارته وأمواله في سبيل الفرار بدينه والتمسك بعقيدته، وسعياً لرفع راية الإسلام وإعلاء كلمته في العالمين؛ لذا قال الله تعالى عن المهاجرين: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).
الهجرة مقام تعبدي
حديث القرآن عن الهجرة حديث المُثني على من سلكوا نهجها، وتحققوا بمقتضياتها، فالهجرة مقام تعبدي ترقى به السائرون إلى ربهم مفاوز وعقبات فاستحقوا بها أعلى الدرجات، ولا أعلم مقاماً ذكره القرآن أو مكانة أقرب لله تعالى أعظم من تلك المكانة التي سطرها القرآن عن فضل المهاجرين المجاهدين، لذلك أدعوك أن تقرأ تلك الآيات بتدبر لتدرك عظيم بل أعظم ما أعطى الله لعباده في القرآن الكريم على الإطلاق، حيث جمع لهم من الفضائل والعطايا ما لم يجمعه لغيرهم، فقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ {20} يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ {21} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة).
فهم أعظم درجة عنده، وهم أهل الفوز برضوانه، وهم أهل البشارة برحمته ورضوانه، وجنته، وهم أهل النعيم المقيم والخلود الكريم والأجر العظيم!
الهجرة باب الرعاية الربانية الأوسع
جعل الله تعالى المهاجرين في سبيله تحت كنف رعايته وعنايته وضمانه سبحانه، فلأنهم تخلوا عن كل شيء من أجله سبحانه، كافأهم بأن جعلهم أولياءه، وتكفل بحفظهم ورعايتهم، ورفع درجاتهم، ووسع أرزاقهم، ومنحهم وافر الأجر في الدارين، قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (النساء: 100)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) (النحل: 41).
الهجرة انتقالة فكرية ونقلة حضارية
الهجرة في القرآن ليست انتقالاً مكانياً، وإنما هي انتقال فكري، وقفزة إدارية، وحنكة قيادية، وميلاد متجدد، وانطلاقة فتية، يمكن لكل منا أن يبدأ بها اليوم، وعلى الأمة أن تستلهم العبرة وتنفض عنها الغفلة، وتطرد عنها الدعة والإحباط، لتبدأ انطلاقة جديدة مباركة.
الهجرة استعلاء وليس اختباء
الهجرة في القرآن ليست مجرد فرار من الإيذاء، أو تضجر من التضييق والتعذيب، ولم تكن كذلك سعيًا لحياة أرغد، أو لقمة أطيب، أو معيشة أترف، أو دخل أوفر، إنما كانت انتقالاً فكريًا، وبحثًا عن أرض خصبة لغرس الإيمان، وانطلاقة الإسلام، كما كانت تحولاً من بناء الأفراد إلى بناء المجتمع الرائد والأمة الناهضة.
فالهجرة في القرآن استعلاء على الآلام والعواطف والارتباطات النفسية والعلائق الأرضية وصدق الانتساب لدين الله تعالى، حيث ربطوا مصيرهم بمصيره، فكانت حياتهم لله تعالى حيثما أراد الله، فإن أرادهم الإسلام في اليمن كانوا في اليمن، وإن أرادهم في الحبشة كانوا في الحبشة، وان أرادهم في المدينة كانوا في المدينة، وإن أرادهم في الشام كانوا في الشام.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
الهجرة والجهاد
الهجرة في سبيل الله ليست جبناً أو هروباً أو فراراً من الزحف، ولكن الهجرة في أغلب سور القرآن ترتبط بالجهاد، وإعلاء كلمة الإسلام ومواجهة الطغيان بالنفس والمال، وكأن الهجرة والجهاد توأم لا ينفصلان، وحقيقة واحدة لا تقبل التفرقة، قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 110)، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 218).
الهجرة منهجية بناء وليست مسافة سفر
الهجرة ليست تلك المسافة التي قطعها المهاجر من موطنه إلى موطن آخر مهما كان بعيداً أو قريباً، إنما الهجرة هي ماذا فعل المهاجر بعد وصوله إلى موطن هجرته، وما دلائل صدقه في ادعاءاته وشعاراته، وما علاقته بقضيته التي من أهلها ترك بلده وأهله وماله، حيث من شروط صحة الهجرة أن يكون المهاجر وقفاً لما هاجر إليه، فإن لم يكن كذلك فربما يكون مهاجراً نعم، ولكن لدنيا يصيبها، أو لامرأة ينكحها، أو لمصلحة ينشدها، والفرق شاسع والبون بعيد.