إن الإلحاد قديم قِدَم الخلق ذاته؛ وقد تجسَّد ذلك في إبليس الذي تمرَّد على أوامر ربه، وانحرف عن الصراط المستقيم، فأصل «الإلحاد» في كلام العرب: العدول عن القصد، والجورُ عنه، والإعراض، ثم يستعمل في كل معوَجٍّ غير مستقيم(1)، وبذلك يكون إبليس أول ملحد في التاريخ والخليقة، لكن إلحاده لم يكن بإنكار الله تعالى، بل كان بترك أمره واتباع هواه.
ولذا فإن كثيرًا من الملحدين يتخذون الشيطان رمزًا لهم، رغم أن إبليس كائن غير مرئي، وهو غيب لهم، ويزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما تقع عليه عيونهم، وأنه لا شيء وراء المادة.
وقد وردت آيات في القرآن متحدثة عن أنواع مختلفة من الإلحاد، وهي:
1- (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف: 180).
2- (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: 103).
3- (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج: 25).
4- (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (فصلت: 40).
وسنلقي الضوء عن الإلحاد في أسماء الله وآياته:
فالإلحاد في أسمائه تعالى قد وقع فيها المشركون؛ حيث إنهم عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه؛ فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنان، وقيل: يلحدون في أسمائه؛ أي: يكذبون(2).
ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى خلع تلك الأسماء الحسنى على الكون، وتأليه هذا الكون، وتقديس الطبيعة، فبعض الملحدين يقولون: «إن الطبيعة هي التي خلقت الخلق أو أوجدته، وأنها أزليةٌ أبديةٌ»(3)، وقادهم لذلك بعض العلماء والفلاسفة الذين اندفعوا في إطار رغبتهم لإزالة مفهوم الخالق كليًّا، وربما بلا إدراك منهم لإعادة تأليه الكون بمنح المادة والطاقة قدرات إبداعية لا يمكن إثبات امتلاكها لها، فنفيهم لوجود الله الخالق الواحد سيؤدي إلى ما وصف بتعدد الآلهة الأقصى، كونٌ يملك كل جسيم فيه قدرات شبيهة بالآلهة(4).
ومن هؤلاء العلماء الملحدين ستيفن هوكينغ الذي يقول: طالما أنه يوجد قانون الجاذبية، فالكون يستطيع وسيقوم بخلق نفسه من لا شيء، الخلق التلقائي هو سبب وجود شيء بدلاً من لا شيء، ليس لازمًا أن نقحم إلهًا ليبدأ عمل الكون(5).
فهم رفضوا وجود الإله؛ لأنه غيب، وألبسوا صفات الإله على الكون، رغم أنهم لم يحيطوا بالكون علمًا، ولم يقفوا على كل صفاته، وما زال محل دراسة.
ومن الإلحاد إلباس صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى للبشر؛ مثل: القول بألوهية بعض البشر كعيسى، وعزير.
وقد كان الإلحاد بنفي وجود الإله أكثر في المسيحيين؛ فرفضهم لألوهية البشر متمثلاً في ألوهية المسيح دفعت الكثيرين لنفي وجود الإله من الأساس، والوقوع في الإلحاد الكامل.
والإلحاد في الأسماء يسفر عن رغبة عميقة في نفوس هؤلاء للتمرد على الألوهية التي تستلزم طاعة الأوامر، واجتناب النواهي؛ لذا جاء الوعيد لهم والتهديد في قوله تعالى: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)؛ فالأمر بتركهم ليس بأمر من الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بترك المشركين أن يقولوا ذلك، حتى يأذن له في قِتالهم، وإنما هو تهديدٌ من الله للملحدين في أسمائه، ووعيدٌ منه لهم(6)؛ إذ إن المجادلة لها حدود، فإن لم تجد الأذن الصاغية فاتركهم ولا تتعرض لهم؛ فهناك العذاب الأليم لهم في الآخرة، وعندها سيعلمون من هو الإله الحقيقي.
أما الإلحاد في آياته تعالى فهو الميل والعدول عنها بالتكذيب بها، والاستهزاء، والمفارقة لها والمعاندة والمشاقة، والتحريف لها وتغيير معانيها، وتبديل الكلام ووضعه في غير موضعه(7).
والآيات هي آيات القرآن المقروء، أو آيات الكون المنشور، أو المعجزات الباهرات.
يقول ابن قتيبة: وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا (مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7) بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرَّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثم قضوا عليه بالتَّناقض، والاستحالة، واللَّحن، وفساد النَّظم، والاختلاف، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضَّعيف الغمر، والحدث الغرَّ، واعترضت بالشُّبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور.
ولو كان ما نحلوا إليه على تقريرهم وتأوُّلهم لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يحتجُّ عليه بالقرآن، ويجعله العلم لنبوَّته، والدليل على صدقه، ويتحداه في موطن بعد موطن، على أن يأتي بسورة من مثله، وهم الفصحاء والبلغاء، والخطباء والشعراء، والمخصوصون من بين جميع الأنام بالألسنة الحداد، واللَّدد في الخصام، مع اللُّب والنُّهى، وأصالة الرَّأي(8).
وهذا الكون المنظور الذي تجد فيه الآيات الدالة على عظيم الصنعة، وأن وراءه خالقًا أوجده وأودع فيه قوانينه وأسبابه، لم تكن هذه الآيات عند كثير من علماء الغرب داعية للإيمان بالله، بل ينطبق عليهم قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف: 105).
فالعلم والتكنولوجيا والأبحاث والتلسكوبات والمراصد لم تولد الإيمان، بل يتوطن بين علماء الفلك والفيزياء وغيرها الإلحاد، والكفر بالله تعالى.
يقول جون لينوكس: إن العلم قدَّم لنا هذه التفسيرات الرائعة للكون، وأوضح أن الإله ليس ضروريًّا، الإيمان بالله قديم الطراز؛ إنه ينتمي إلى الأيام التي لم يفهم فيها الناس حقيقة الكون، وأخذوا الطريق البطيء للتو وقالوا: إن الله فعل ذلك(9).
فهؤلاء العلماء الملحدون أعطاهم الله العقل وأمدهم بالأدوات التي تسبر الكون، لكنهم مالوا عن الحق، وانحرفوا عن الصراط المستقيم، واختاروا أن يكون في حزب الشيطان الذي هو الملحد الأول؛ فهؤلاء لن يجدوا برد اليقين في الدنيا، وسيفقدون الأمن في الآخرة، والإله الذي أنكروه كان بصيرًا بهم وبأفعالهم وسيجازيهم على ما قدموا وسيكون لهم بالمرصاد.
______________________
(1) تفسير الطبري (13/ 283).
(2) تفسير البغوي (3/ 307) باختصار.
(3) https://www.drostext.com/Items/2100.
(4) https://yaqeen.net/web3/index.php/articles/62-2018-02-06-06-08-20/341-9.
(5) https://midad.com/article/221146/%D9%87%D9%88%D9%83%D9%8A%D9%86%D8%BA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%A1-%D8%AC%D8%AD%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D9%87-%D9%88%D8%AA%D8%A3%D9%84%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86
(6) تفسير الطبري، (13/ 285).
(7) انظر: تفسير الطبري، (21/ 478)، وتفسير القرطبي، (15/ 366).
(8) تأويل مشكل القرآن، ص 23.
(9) https://arabicpost.net/%D9%84%D8%A7%D9%8A%D9%81-%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%8A%D9%84/2019/03/18/%D8%AA%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85/