يبلغ تعداد سكان السودان 46 مليون نسمة؛ 61.5% منهم دون الخامسة والعشرين، فهو من المجتمعات الفتية، وهذه الخاصية لها دلالات اقتصادية واجتماعية مهمة، ويتسم المجتمع السوداني بالتماسك والترابط والتراحم بين أفراده انطلاقاً من الأسرة نواة هذا المجتمع.
ظل السودان مستهدفاً عبر التاريخ لما له من ميزات وموارد عز نظيرها، لكنها ساقت عليه الفتن والحروب، ولم يكد شعبه ينعم بها، وما فتئت الأسر السودانية في مختلف ولايات السودان تتأثر بالنزاعات والاضطرابات الأمنية بدرجات متفاوتة تتراوح بين التعرض المباشر للأذى البدني والقتل واليتم والترمل، أو غير المباشر بنقص الموارد الموجهة من قبل الدولة للصحة والتعليم والخدمات الأساسية والبنية التحتية؛ مما ينعكس على جودة الحياة ورفاه المواطن.
غير أن الحرب هذه المرة تجري داخل العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، وبعض المدن الأخرى، فيما جرت الحروب التي شهدها السودان في السابق في الأطراف والمناطق الريفية سواء في الجنوب أو دارفور أو شرق السودان، ونظراً لأن العاصمة بمدنها الثلاث مركز السلطة والحكم، فإن اندلاع الحرب داخل العاصمة المأهولة بالسكان يفضي إلى نتائج كارثية من حيث أعداد القتلى والجرحى، وحجم التدمير في البنى والهياكل التحتية والممتلكات العامة والخاصة.
اندلاع الحرب داخل العاصمة المأهولة بالسكان أفضى إلى نتائج كارثية من حيث أعداد القتلى والجرحى
كما أن الأثر المدمر لهذه الحرب سببه طبيعتها الاستئصالية التي استهدفت تجريف المكونات السكانية وتغييرها كلياً إلى مجموعات وافدة تُستجلب من دول الجوار الأفريقي في عملية إحلال ديمغرافي غير مسبوق؛ ولتحقيق هذا الهدف عملت مليشيا «الدعم السريع» المتمردة في تشتيت الأسر بالعنف الفظيع والممنهج الذي أسفر عن النتائج التالية.
أولاً: الآثار الاجتماعية:
بدأ أول شرخ في النسيج الاجتماعي السوداني المتماسك بالتهجير من العاصمة الخرطوم؛ حيث نزح المواطنون باتجاه الولايات الآمنة، وقد عانى سكانها الأمرين وهم يخرجون إلى ولايات غير مهيئة لاستقبال هذه الأعداد من الوافدين عليها، واجتاحت المليشيا منازل المواطنين واستباحتها ونهبت كل ما غلا ثمنه وخف حمله.
وحملت قصص الفارين من الحرب ما يشبه الأساطير من البطش في وجه شعب عرف بالسلام والتراحم والتكافل، فقد دخل المتمردون على أسرة لم تنزح من منزلها مستنكرين بقاءهم في أحد الأحياء التي تم اجتياحها، فوجدوا أن سبب بقائهم جدهم المسن المريض الذي لا سبيل للنزوح به، فما كان منهم إلا أن أطلقوا رصاصهم عليه وخاطبوا بقية أفراد الأسرة بأن يغادروا فوراً قائلين لهم: أرحناكم منه!
وأثناء رحلة التهجير القسري كانت المليشيا تخطف الفتيات صغيرات السن والنساء عموماً تغتصب البعض وتسترق البعض الآخر؛ حيث يُجبرن على خدمتهم من طبخ وغسل ملابس وتنظيف مساكن، وأخذ البعض منهن سبايا (بعض هؤلاء السبايا طبيبات كن في الخدمة بالمستشفيات حين اقتحمتها المليشيا) وتم بيعهن في حواضن المليشيا في ولايات معلومة وفي بعض دول الجوار.
أول شرخ في النسيج الاجتماعي السوداني المتماسك بدأ بالتهجير من العاصمة الخرطوم إلى الولايات الآمنة
خرج الفارون من جحيم القتل والأسْر وهتك العرض والتعذيب والتنكيل إلى المجهول، فالمليشيا تصادر كل شيء، وتخرج الأسر سيراً على الأقدام أياماً فيموت خلال هذه الرحلة الشاقة الضعفاء من المسنين والأطفال والمرضى، ويواصل من بقي على قيد الحياة مسيرهم إلى المجهول، ويظل السؤال: إلى أين؟
الوجهة الجديدة لا تخلو أن تكون مدينة صغيرة محدودة الخدمات، أو قرية أصغر لا تكاد مواردها تكفي متطلبات أهلها، يصل الناجون إلى هذه الوجهات خائفين، منهكين، جائعين، معدمين، تستقبلهم بعض البيوت والأسر أو المدارس والمرافق العامة ليعيشوا المعاناة في أقسى صورها.
أما من اختار اللجوء وعبور الحدود إلى دول الجوار فيعاني ذات المرارات السابقة مضافاً إليها طول المسير والقلق مما يواجهه في الحدود وإذلال اللجوء وقد فقدت الأسر وثائقها الثبوتية فأصبحت حرفياً بلا هوية؛ فالأطفال أصبحوا يتامى، والنساء ترملن، والأمهات ثكالى، مع فقد البيوت والمدخرات والوظائف، وتمر معظم الأسر الآن بظروف قاسية من حيث مكان الإقامة والحالة الاقتصادية والصحية.
ثانياً: الآثار الاقتصادية:
ظل السودان عقوداً متتالية يعاني من الحصار والعقوبات الاقتصادية والاستنزاف عبر الحروب والنزاعات، ولكن هذه الحرب استهدفت ممتلكات المواطنين؛ فأفقرت الأسر تماماً مثلما أفقرت الدولة باستهداف كل مقدراتها.
أثناء رحلة التهجير كانت مليشيا «الدعم السريع» تخطف الفتيات فتغتصب البعض وتسترق البعض الآخر
ولعل أكبر استثمار عرف عن الأسر السودانية هو الاستثمار في تعليم أبنائها؛ حيث توجه الأسر جل مواردها لهذا البند، وقد تحقق فيه إنجاز مشهود عبر العقود الثلاثة الأخيرة بطفرات قياسية في مؤسسات التعليم العالي وأعداد الخريجين، فكان أن استهدفت هذه الحرب المدارس والجامعات والمراكز البحثية وعطلت الدراسة، وفقد الطلاب عامين دراسيين ولا يزال الأفق معتماً.
ثالثاً: الآثار النفسية:
يترك التهجير وفقدان المنزل وأفراد الأسرة والانفصال عن الوالدين آثاراً طويلة الأمد على نمو الأطفال، تستمر حتى سن البلوغ؛ وتتعرض صحتهم لخطر كبير في الحروب؛ فبعضهم يُقتل أو يُعذب بوحشية، بينما يعاني آخرون من إصابات خطيرة، ويفقد العديد من الأطفال والديهم وأشقاءهم وأصدقاءهم، وغالباً ما يُترك الأيتام للعيش في الشوارع، فينتج الآتي:
– القلق والوحدة وانعدام الأمن: كثير من الأطفال الذين يعيشون في مناطق النزاع فقدوا منازلهم، وتم تهجيرهم من أحيائهم؛ ما يؤدي إلى الاضطراب والاكتئاب والقلق لدى الأطفال المتأثرين بالحرب.
– الانسحاب العاطفي؛ قد يصبح الأطفال الذين يتعرضون لمصادر متعددة من العنف مع مرور الوقت غير مبالين ومخدرين عاطفياً؛ مما يزيد من احتمالية تقليدهم للسلوك العدواني الذي يشاهدونه واعتبارهم هذا العنف أمراً عادياً.
– الأعراض النفسية الجسدية؛ حيث إن مستويات التوتر العالية لديهم تظهر في أعراض جسدية مثل آلام في الرأس والصدر، وصعوبة في التنفس، وفي بعض الحالات فقدان مؤقت للحركة في أطرافهم.
– اللجوء إلى إيذاء النفس؛ ففي بعض الحالات لا يرى الأطفال أي خيار آخر سوى محاولة الهروب مما يمرون به ومن محيطهم باستخدام المخدرات أو حتى إيذاء النفس والانتحار.