أوجد الله تعالى في هذه الدنيا النعيم والألم، وجعل ما فيها من النعيم دليلاً ومؤشراً على نعيم الجنة، وما فيها من ألم دليلاً ومؤشراً على عذاب النار، فمن حوادث الدنيا ما يذكّر العبد بالجنة، ومنها ما يذكره بالنار.
ويشير إلى هذا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: يا رَبِّ أَكَلَ بَعضي بَعضًا، فأْذَنْ لي أتَنَفَّسْ، فأَذِنَ لَها بنَفَسينِ، نَفَسٍ في الشِّتاءِ، ونَفَسٍ في الصَّيفِ، فما وجَدْتُم مِن بَردٍ أو زَمْهَريرٍ فمِن نَفَسِ جَهَنَّم، وما وجَدْتُم مِن حَرٍّ أو حَرُورٍ فمِن نَفَسِ جَهَنَّمَ»(1).
وقد لفت الإسلام أنظار المؤمنين إلى الاستفادة من هذه الأحوال في زيادة الحسنات ورفعة الدرجات وتكفير السيئات، من خلال القيام ببعض الأعمال وأداء بعض العبادات في هذه الأوقات، ومنها: الصيام في حر الصيف.
1- صيام النبي في الصيف شديد الحر:
في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن رواحة(2).
2- من خصال الإيمان:
قال ابن رجب الحنبلي: وصى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه عبدالله فقال له: «عليك بخصال الإيمان، وسمّى أولها: الصوم في شدة الحر في الصيف»(3).
3- دليل على علو الهمة:
كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حراً فتصومه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد، تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم(4).
4- يزيد في الأجر والثواب:
إذا كان في الصيام مشقة لطول اليوم وشدة الحر، فإنّ ثوابه يكون أعظم؛ ففي صحيح البخاري، ومسلم وسنن الدارقطني عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا: «إِنَّ لَكِ مِنَ الْأَجْرِ قَدْرَ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ»، فالأجر على قدر المشقة.
وقال ابن رجب الحنبلي: ورد أن بعض السلف قال: بلغنا أنه يوضع للصوّام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب فيقولون: يا رب نحن نحاسب وهم يأكلون، فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم وقاموا ونمتم.
5- يورث السقيا عند عطش يوم القيامة:
عن ابن عباس، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعث أبا موسى على سريةٍ في البحرِ، فبينما هم ذلك قد رفعوا الشراعَ في ليلةٍ مظلمةٍ إذا هاتفٌ فوقهم يهتفُ: يا أهلَ السفينةِ قفوا أخبرْكم بقضاءٍ قضاه اللهُ على نفسِه، فقال أبو موسى: أخبرْنا إن كنتَ مخبرًا قال: إنَّ اللهَ تعالى قضى على نفسِه: أنه من أعطش نفسَه له في يومٍ صائفٍ سقاه اللهُ يومَ العطشِ(5)، فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حرّاً فيصومه(6).
6- إعداد للوقاية من حر يوم القيامة:
كان أبو الدرداء يقول: طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظام الأمور، صوموا يوماً شديداً حره لطول النشور، صلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور(7).
وقال ابن رجب الحنبلي: نزل الحجّاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة فدعا بغدائه ورأى أعرابياً فدعاه إلى الغداء معه فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم أشد منه حراً، قال: فافطر وصم غداً، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد، قال: ليس ذلك إليَّ قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه.
وخرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم قال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال: أبادر أيامي الخالية(8).
______________________________
(1) أخرجه البخاري (3260)، ومسلم (617).
(2) أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122)
(3) لطائف المعارف، ص 322.
(4) المرجع السابق.
(5) أخرجه البزار (4974)، وصححه الألباني.
(6) الترغيب والترهيب، المنذري (578).
(7) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، (1/ 165).
(8) لطائف المعارف، ص 323.