يُستشهد عادة بالمرحلة المكية في تاريخ النبوة والرسالة الخاتمة بوصفها مرحلة إرساء العقيدة في القلوب قبل نزول التكاليف العملية، ثم بالمرحلة المدنية بوصفها نموذج إرساء أسس المجتمع السلم وتحقيق النصرة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام عمليًّا، ولذلك يكثر التركيز على المرحلة المدنية في ذكرى الهجرة بوصفها النقلة الكبرى والمرحلة الأطول والأثرى عملًا، لكن ثمة ركنًا ركينًا في المرحلة المكية لا يُعطى حقه من العناية والتأصيل والتصديق بركنيّه، ألا وهو «الأَرْقَمِيَّة»، أو إعداد الغالب.
بدأت المرحلة المكية أول ما بدأت بالأَرْقَميّة؛ أي اجتماعَ أفرادٍ معدودين على حقٍّ آمنوا به واعتقدوا حقانيته على ما عداه، في خفية عن أعين المخالفين لذلك الحق لكونهم أصحاب السلطة الغالبة آنذاك، وكذلك بدأت المرحلة المدنية في باكورتها بالوَفْدين اللذين حضرا تِباعًا في مواسم الحج، أصحاب بيعة العقبة الأولى ثم الثانية، فآمنوا واعتقدوا ووعدوا بالنصرة، ثم انصرفوا إلى أهليهم يعلمونهم ما علموا ريثما يحين دورهم في النصرة.
المشترك بين المرحلتين أن باكورة النصرة لدين الله تعالى في أي زمان ومكان ومن قِبَل أي عدد من الأفراد تبدأ أول ما تبدأ من اعتقاد حقانية هذا الحق فوق ما عداه، وبالتالي أولوية تعلمه وفقهه على وجهه، للتهيؤ للعمل به ونصرته وفاقًا.
وإننا في أتون الفتنة الدائرة اليوم نستهين بالخطاب الذي يعتني بالكلام في تربية الفرد والتربية الإسلامية إجمالًا بوصفه موضوعًا عتيقًا قُتل بحثًا وكلامًا، وهذا صحيح، وهو عين سبب استمرار الحاجة إليه، لأنه قُتِل قبل أن يُوفّى حظه من التناول الصريح الصادق الذي لا يميّع الحق ولا يرقعه برقع من الباطل، وإننا إذا نظرنا إلى مجموع ما تعيشه الأمة اليوم من مغلوبية وتبعية في مختلف مناحي الحياة فمردّه بالأساس إلى تراكم التربية الخائبة والخائرة التي عايشتها أجيال من المسلمين على مدى قرون، وقد أثبت نهج التربية الإسلامية على مختلف تصوراته عبر قرون عقمه، إذ لم يُخَرِّج مسلمين مهيّئين للغَلَبة بأخذ زمام السيادة في الأرض وتعبيدها لله تعالى والشهادة على الأمم الأخرى، بل غاية ما أثمرته هو مسلمين مُرَقّعين بالأسلمة والتخليط.
وهذان كانا سبب إصابة روح الأمة في مقتل وتنشئة أجيال بنفسية المغلوبية وعقلية التبعية للأمم الأخرى، فقد صارت التربية في غالب الأوساط المسلمة تبدأ على تفتيح وعي الناشئة على مختلف المدارك من الألسنة والثقافات والوسائط التعليمية، ويوم تُدرج العلوم الإسلامية أو بعضها في منهج التربية تحل حلول اليتيم على موائد اللئام! والأدهى أن كثيرًا من علوم الدين وكل علوم الدنيا بالثوب العصري هي عصارة قرون من الترقيع الإسلامي ومختلف التصورات والفلسفات والعقائد الوجودية (وتسمى بعملية الأسلمة)، تحت مسميات المنظومة القيمية العالمية والرؤى الأخلاقية العامة والمشترك الإنساني، على ما تم بيانه في مقالة سابقة.
والواقع القائم شاهد بآثار عقود من الالتزام النموذجي بالنظم التي أقامها غيرنا أو أقمناها على غرار الغير، والظاهر أن ذلك الالتزام أثمر عمرانًا حضاريَّا في الأرض، لكن هل أثمر عمرانًا بناسها أم كان على حسابهم هم؟! فكم خرجت بيوت مسلمة من تجار ومهندسين وأطباء ومعلّمين وغيرهم من البارعين في علم من علوم الدنيا أو مهنها، ولعله لا يميز أركان الوضوء أو الصلاة وسننهما وواجباتهما، أو يرتكب فيها أخطاء وهو يحسب أنه يؤدي ما عليه!
والتطبيق العملي الصحيح هو أنه يلزم المسلم المشتغل بأي مشغلة في الحياة –كالفلاحة أو الزراعة أو غيرهما– أن يعلم حدود الله تعالى فيها أولًا، من حلال وحرام ومندوب ومكروه ومباح؛ ثم حيث أباح الشارع له مساحة رأي شخصي أن يرتأي ما يرى، وفي مساحة الرأي المباحة هذه يتفاوت الناس في علمهم بأمور دنياهم بحسب اختصاصهم فيها: فالفلاح أقدر من الطبيب على تحديد نوع الثمر الأصلح للزراعة في كل تربة بحسبها، لكن إذا كان الطبيب هو صاحب الأرض وشاء أن يخالف رأي الفلاح المختص فله ذلك، كذلك الطبيب الذي يعالج مشكلة نفسية ذات صلة بالشهوة الجنسية –مثلًا- لا بد له من الإلمام الراسخ بقدر من العلم الطبي البدني أو الحيوي كما النفسي، وذلك من حيث كونه طبيبًا، ثم من حيث كونه طبيبًا مسلمًا يعالج مريضًا مسلمًا، لا بد له من المعرفة الراسخة بما يتعلق إجمالًا بالتصور الشرعي للشهوة والمعاملات بين الجنسين وأحكامهما، خاصة في قضايا ومستجدات العصر كالميول الشاذة أو إدمان الإباحيات، بما سيتطلب منه تَعَلُّم قَدْرٍ يتجاوز ما يتعلمه المسلم عادة لتطبيقه الشخصي، بهذا ينضبط في فهمه ميزان تقدير مراحل العلاج ومادّته، وغربلة ما يرجع إليه من موارد أجنبية، وما ينتقي من عِلمِها أو يَـذَرْ.
وإن الجهل في تصوّر الإسلام ليس مجرّد قلة العلم أو انعدامه، بل هو أوّلًا الانشغال عن أولوية ما يجب العلم به وما تحصل به النجاة، ولو كان ذلك الانشغال بسبب تحصيل علوم أخرى تالية في الأولوية، مصداق قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم: 7).
لقد انتشر التوهان والحيرة بين أجيال المسلمين اليوم في إسلام حياتهم وحياة إسلامهم، لافتقارهم لتلبية ذلك الاحتياج الاضطراري كما تُلبّى الاحتياجات الأخرى على مدى سنوات النشأة، فإذا بالأجساد تكبر والأعمار تتقدم، فيستقيم للصغير شأنه حين يكبر في حاجات الدنيا والمعاش الحسي، وتظل حركته متخبطة طفولية في جوانب إقامة الوجود ونهج حياته ككل على أمر الله تعالى، لأنه لم يُحكِم فهمه بعد، ولا استقام تصوره الناضج له.
إن الأرقمية أو تربية الغالب التي نحتاجها هي المبنية على فرقان الحق عن الباطل، بتنشئة المسلم حصرًا وقصرًا على لسان الإسلام وعلومه وآدابه وفنونه، تنشئة خالصة من شوائب مستوردات المشارق والمغارب؛ ثم يتخرّج بعد الفراغ وقتما يتخرج مسلمًا حقًّا، يكون بعد ذلك في الحياة ما يكون.
وفي ذكرى الهجرة، حريّ بنا أن نسائل أنفسنا: ما الذي يُهاجر إليه المسلمين اليوم؟ أإلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، أم إلى كل ما سواهما؟ وبناء عليه يتضح جواب: فأي إسلامٍ ذاك الذي يُربَّى عليه أبناء المسلمون؟