في خضم الحديث عن أخلاق المحن وأوقات الجهاد، نصل إلى الاستعداد للشهادة، فكل فرد في الأمة مشروع مجاهد كل على ثغره الذي يقف عليه، وحين تشتد الملمات تحتاج الأمة لكافة أبنائها، ويحتاج الدين لكافة منتسبيه لترفع رايته في العالمين، والمسلم يحارب بخلق مستمد من السماء وليس الأمر اجتهاداً وهوى يتبعه أو بدافع الانتقام، وحال المؤمن إما أن يكون مجاهداً، أو هو يعد نفسه للجهاد، ويعد نفسه للشهادة وهي سبيل النجاة من الدنيا ونوال أعلى الدرجات عند الله تعالى.
الأمر بالإعداد والاستعداد
والإعداد والاستعداد ديدن المؤمن على الدوام، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «مِنْ خَيْرِ مَعاشِ النَّاسِ لهمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنانَ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللهِ، يَطِيرُ علَى مَتْنِهِ، كُلَّما سَمِعَ هَيْعَةً، أوْ فَزْعَةً طارَ عليه، يَبْتَغِي القَتْلَ والْمَوْتَ مَظانَّهُ، أوْ رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رَأْسِ شَعَفَةٍ مِن هذِه الشَّعَفِ، أوْ بَطْنِ وادٍ مِن هذِه الأوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلاةَ، ويُؤْتي الزَّكاةَ، ويَعْبُدُ رَبَّهُ حتَّى يَأْتِيَهُ اليَقِينُ، ليسَ مِنَ النَّاسِ إلَّا في خَيْرٍ» (أخرجه مسلم)، ومعناه أن يسارع على ظهره وهو متنه، كلما سمع هيعة وهي الصوت عند حضور العدو، والفزعة وهي النهوض إلى العدو، يبتغي القتل مظانه يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها، لشدة رغبته في الشهادة، فهو مستعد لأي نداء عند إغارة العدو على المسلمين.
والموتُ قدرٌ محتومٌ على كل مخلوقٍ، والشهادةُ أسمى صورِ الموتِ، يصطفي اللهُ لها من يشاءُ من عباده، والمؤمنُ مأمورٌ على كل حالٍ بالاستعداد للموت، فمن كانت أمنيته الشهادةُ كان أولى بالاستعدادِ، وأحرى بالتطلعِ لاصطفاءِ اللهِ له»(1).
وتمني الموت منهي عنه في شريعة الإسلام، لكن تمني الشهادة والحرص عليها مطلوب لما لها من فضل عند الله وتعالى، فلا حزن على من يرتقون شهداء، بل الحزن حقاً يجب على من يسقطون جبناء.
صور من استعداد الصحابة للشهادة
وخير الأنام على الأرض بعد الأنبياء هم الصحابة رضوان الله عليهم، ولمن قرأ التاريخ يعرف كيف حول الإسلام هؤلاء لأسود يذودون عن الأمة محبين الموت في سبيل الله أكثر من حب عدوهم للحياة، وكيف نقلهم الاستعداد للشهادة والحرص عليها، وهذا سعد بن أبي وقاص يدعو الله يوم «أُحد» قائلاً: يا رب، إذا لقيتُ العدوَّ فلقِّني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حَرْدُهُ، أقاتلُه ويقاتلُني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتلَه وآخُذَ سَلَبَهُ، فأمنَّ عبدُ اللهِ بن جحشٍ، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديداً حردهُ، شديداً بأسهُ، أقاتلُه فيك ويقاتلُني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غداً قلتَ: مَن جَدَعَ أنفَكَ وأذنَكَ؟ فأقول: فيك وفي رسولكَ، فتقولُ: صدقتَ.
قال سعدٌ: يا بُني، كانت دعوةُ عبدالله بن جحشٍ خيرٌ من دعوتي، لقد رأيتُه آخرَ النهارِ وإن أنفَه وأذنَه لمعلقتان في خيطٍ(2).
قال ابن القيم، رحمه الله: وقال عبدالله بن جحشٍ في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدوَّ غداً، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: فيم ذلك؟ فأقول فيك(3).
وعن أنس، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلتَ المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتال المشركين لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يومُ «أُحدِ»، وانكشف المسلمون، قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، -يعني المشركين- ثم تقدم»، فاستقبله سعدُ بن معاذ، فقال: «يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد»، قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صَنَعَ، قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أختُه ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23) (رواه البخاري).
وروى البخاري أن ابن عمر سأل نافعاً، على أي شيء بايع الصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ على الموت؟ قال: لا، بل بايعهم على الصبر، ويليه في صحيح البخاري حديث عن سلمة يثبت أن البيعة كانت على الموت.
لقد حرص أعداء الأمة على مهاجمتها في دينها فقاموا بتشويه آيات وأحاديث الجهاد لتظل الأمة ضعيفة مدجنة تابعة تخشى أسباب القوة خوفاً واستضعافاً ومذلة، وما على المربين والعلماء اليوم إلا كشف حقيقة هذا الدين الذي يحمل العزة التي جعلها لله ولرسوله وللمؤمنين باستجلاب أسباب القوة حفظاً للنفس والدين والعدو في ذات الوقت.
الاستعداد للشهادة والإعداد لملاقاة العدو
في الاستعداد للشهادة والإعداد لها أمر عظيم على النفس، ومكروه لدى الإنسان المحب للحياة والمقبل عليها وتلك فطر الله الناس عليها، لكن المؤمن حقاً يرى الأمور من زوايا أخرى، فمن يحب الحياة يعلم ما هي الحياة وكيف يحبها، فالحياة الدنيا رحلة منتهية بخروج الروح من الجسد، والجسد الذي نعرفه فان لا يعود بالموت، إنما الحياة بالنسبة للمؤمن هي حياة الآخرة، حيث الخلود إما في جنة الرحمن، أو في جهنم مصحوبة بغضب الله، وهو أحرص الناس على تلك الحياة الحقيقية، فمن أحب نفسه حفظها من عذاب الأبد، وحرص على الطاعة المطلقة ليجنبها العذاب والعقاب، وهو بذلك في فضل من الله، وما عند الله لا يعطى إلا بطاعة الله والاستعانة به، بحسن التوكل عليه والإخلاص له، باتخاذ الأسباب ثم الركون للتوفيق من رب العالمين، وبما أن حب الشهادة والحرص عليها يستوجب إفراغ القلب لله تماما فهناك طريقا له شروط كي يستطيع المسلم بلوغه:
أولاً: الدعاء:
الدعاء استدعاء للعون من الله تعالى، وبراءة من حول الإنسان وقوته أمام الله، فهو عبادة سامية لا يبلغها إلا موفق من رب العالمين، وثبت عن عائشة أيضاً أنّها قالت: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ابنُ جُدْعانَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكِينَ، فَهلْ ذاكَ نافِعُهُ؟ قالَ: «لا يَنْفَعُهُ، إنَّه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ» (رواه مسلم).
وكان عمر رضي الله عنه يدعو ويقول: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري).
ثانياً: طلب الشهادة بصدق:
الصادق في طلب الشهادة سوف يصدق في تقديم أسباب نيلها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (أخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين، 2412)، وروى مسلمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا، أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ».
ثالثاً: التوبة الصادقة:
النماذج التاريخية على قبول الله تعالى توبة العبد ثم ارتقائه لأعلى الدرجات بالشهادة كثيرة في الماضي والحاضر، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «يضحكُ الله إلى رجلين يقتل أحدُهما الآخرَ يدخلان الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله، فيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيُستَشهَدُ» (رواه البخاري).
وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعملَهُ، قيل: كيف يستعمِلُهُ؟ قال: يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبل الموت ثم يقبضُه عليه»(4).
ثالثاً: الإخلاص:
الإخلاص لله الواحد الأحد شرط قبول العمل، فالله عز وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، فهذا رجل يعرف عنه النفاق في المدينة، قاتل يوم «خيبر» حتى لفت أنظار الصحابة من شدة بأسه على الأعداء حتى قال فيه الصحابة: رجلٌ لا يَدَعُ لهم شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقيل: ما أجزأَ منا اليومَ أحدٌ كما أجزأَ فلانٌ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في النار، فتبعه صحابي ليعلم أمره، فوجده لم يصبر على جراحه فقتل نفسه. (رواه البخاري).
_______________________
(1) من كتاب «هذه أخلاقنا»، ص 39.
(2) السيرة النبوية للصلابي، ص 484.
(3) زاد المعاد لابن القيم، ج3، ص 186.
(4) صحيح الجامع، ص 305.