يعاني قطاع التعليم في السودان من خطر ضياع جيل كامل من الطلاب وتحويلهم إلى قطاع المتسربين، الذين يطاردهم شبح الأمية بفعل تدمير القطاع الأكبر بمدارسهم، أو استيلاء قوات التمرد عليها وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، إضافة إلى هروب المعلمين من جحيم الحرب، وسعياً وراء الرزق لإعاشة ذويهم، وقتل عدد كبير منهم بأيدي قوات التمرد، حيث يواجه هذا القطاع أزمة لم تشهدها البلاد من قبل منذ إعلان الفريق أول محمد حمدان دقلو «حميدتي»، التمرد على الجيش في 15 أبريل 2023م.
وقد أدت الحرب إلى تعطيل العملية التعليمية بشكل كامل في العديد من المناطق، وتسببت في نزوح الملايين من الأطفال، وتحولت العديد من المدارس إلى ملاجئ للنازحين.
أكدت لجنة المعلمين السودانيين أن أغلب مؤسسات التعليم العام في المناطق المتأثرة بالنزاع غير جاهزة لاستقبال الطلاب بسبب تدميرها جراء القصف أو استخدامها منصة للحرب أو ثكنات عسكرية.
منظمة «يونيسف»: السودان على وشك أن يصبح موطناً لأسوأ أزمة تعليمية في العالم
وحذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) من أن انهيار النظام التعليمي في السودان يشكل كارثة لجيل بأكمله؛ فقد أدى تصاعد العنف وانعدام الأمن في العديد من المناطق إلى إغلاق أكثر من 10 آلاف مدرسة، وتُقدر المنظمة عدد الأطفال الذين ظلوا بلا مدارس خلال الحرب في السودان بـ18 مليون طفل، ومع دخول القتال العام الثاني يتوقع أن تصل الإحصائية من 19 إلى 21 مليون طفل نتيجة وصول بعض الأعمار إلى سن الدراسة.
وأوضحت ممثلة «يونيسف» في السودان، مانديب أوبراين، أن السودان على وشك أن يصبح موطناً لأسوأ أزمة تعليمية في العالم، وأضافت أن الأطفال تعرضوا لأهوال الحرب، والآن بعد أن أجبروا على ترك فصولهم الدراسية ومعلميهم وأصدقائهم، فإنهم معرضون لخطر الوقوع في فراغ سيهدد مستقبل جيل كامل.
ومن جهته، أوضح الأمين العام للمجلس القومي للطفولة عبدالقادر عبدالله، أن الصراع المسلح أجبر 3 ملايين طفل في سن الدراسة على النزوح من إقليم دارفور، بينما نزح 2.5 مليون طفل آخرين من ولاية الخرطوم، و1.2 مليون طفل من إقليم كردفان، وقد أدى هذا النزوح الجماعي إلى تفاقم الأزمة التعليمية، حيث فقد العديد من الأطفال فرصة مواصلة تعليمهم.
السودانيون أقاموا مدارس ومعاهد بديلة في البيوت والمساجد كتجارب آمنة لتعليم الطلاب
وتسبب توقف المدارس في ظهور مشكلات جديدة في المجتمع السوداني؛ حيث ارتفعت نسبة زواج الفتيات المتسربات من المراحل الثانوية والإعدادية، خاصة بعد تراكم دفعتين من الشهادة الثانوية بعد استحالة إجراء الامتحانات العام الماضي؛ وهو ما أدى بدوره أيضاً إلى اتجاه الطلاب من الذكور إلى سوق العمل بحثاً عن أموال تكفي حاجتهم وحاجة أسرهم، وكل هذا يضاف إلى مشكلات قديمة ومزمنة من نقص الكتب المدرسية وعدم كفاية المدارس وهجرة المعلمين للخارج.
الفقر يطارد التعليم
تُواجه منظومة التعليم في السودان تحديات هائلة تتجاوز آثار الصراع المسلح، حيث يُلقي الفقر بظلاله القاتمة على فرص حصول الأطفال على التعليم، حيث تُشير المعلمة إيمان مرتضى، صاحبة خبرة 25 عاماً في مجال التعليم، إلى أن الأسباب الجوهرية لتعطل المدارس في السودان تتجاوز النزوح والحرب لتشمل الفقر المدقع الذي يُعاني منه الكثير من الأسر، فمع تفاقم الأوضاع الاقتصادية، باتت فكرة إرسال طفل إلى المدرسة تُعدّ رفاهية لا يستطيع الكثير من الأهالي توفيرها.
ويُؤكد الباحثون أن الجوع الناجم عن الصراع المسلح يُقلل من رغبة المجتمعات في دفع أطفالها إلى المدارس، ويدفعهم بدلاً من ذلك إلى إرسالهم إلى سوق العمل لتوفير لقمة العيش. فالأطفال الذين يعانون من الجوع لا يستطيعون التركيز في الدراسة، ولا يملكون الطاقة اللازمة للتعلم، ويزداد الوضع سوءاً في ظل انعدام الشعور بالأمان بسبب النزوح واللجوء؛ ما يجعل التعليم مسألة ثانوية بالنسبة للكثير من الأسر.
وكشفت القوات المسلحة السودانية عن وجود أعداد كبيرة جداً من الأطفال الذين قامت قوات «الدعم السريع» بتجنيدهم كمقاتلين مقابل المال والوعود بالحصول على غنائم الحرب، وعرض الجيش في مناسبات عدة المئات من هؤلاء الأطفال الذين معظمهم في سن الدراسة الثانوية والجامعية.
قيادات «العدل والمساواة» و«جيش تحرير السودان» أقامت مدارس لتعليم الطلاب في بيوتهم
وحذرت المنظمات الدولية من عمليات تجنيد الأطفال التي نسبت إلى «الدعم السريع» خاصة مع ظهور عدد منهم وقد ربطوا بجنازير في سيارات الدفع الرباعي حتى لا يفروا من القتال، ويرى خبراء التعليم أن تجنيد الأطفال من أسوأ العوامل التي تهدد العملية التعليمية في البلاد؛ لأنه يمنح الصبية مزيداً من الأموال والبطولات الوهمية التي يتطلعون إليها في سن المراهقة.
تحدي الأزمة
عمل السودانيون على نشر مدارس بديلة في البيوت والمساجد كتجارب آمنة لتعليم الطلاب، وقد لاقت هذه التجربة نجاحاً معقولاً في الولايات الآمنة؛ حيث تطوع عدد كبير من المعاشيين في إدارة هذه المدارس والقيام بدور المعلمين الذين تفتقد الولايات إلى عدد كبير منهم بسبب هروبهم لدول الجوار أو قتلهم على أيدي «الدعم السريع»، أو حتى انخراط عدد منهم في العمليات القتالية.
وتبنت قيادات شعبية تابعة لحركة العدل والمساواة، وحركة جيش تحرير السودان، إقامة مدارس ومعاهد لتعليم الطلاب في بيوتهم، حيث يتم تدريس المنهج السوداني مضافاً إليه تحفيظ أجزاء من القرآن الكريم، وبعض المعلومات العامة الخاصة بكيفية تجنب مناطق النزاع والحفاظ على السلامة الشخصية.
واكتسبت هذه المدارس المنزلية شهرة واسعة في مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور التي نزح إليها جزء كبير من القبائل الأفريقية التي كانت تعيش في ولايات دارفور الأربع الأخرى التي يسيطر عليها «الدعم السريع» الآن، ومن أشهر نماذج مدارس البيوت الناجحة مدارس «مشاعل» التي تلقى قبولاً متزايداً من الطلاب.
«يونيسف» أنشأت ألف مساحة تعليمية آمنة وألحقت 941 ألف طفل بالعملية التعليمة
ومن المبادرات الشعبية التي تحدى بها الناس أزمة التعليم مبادرة «الشعب المعلم» التي تنتشر فروع لها في مدينة الدمازين عاصمة إقليم النيل الأزرق، حيث نجحت المبادرة في إقامة 3 مراكز بالمدينة تضم أكثر من 400 طالب في سن التعليم الأساسي، وتركز المبادرة بشكل أساسي على استقبال الطلاب النازحين من الولايات الأخرى.
وأفادت منظمة «يونيسف» أنها نجحت في إنشاء ألف مساحة تعليمية آمنة، وألحقت 941 ألف طفل بالعملية التعليمة، وفي محاولة جادة للوصول إلى الأطفال في مناطق النزاع، وفرت المنظمة منصة رقمية مصممة لتلبية احتياجات الأطفال المتأثرين بالنزاع، وهي مجانية ويمكن الوصول عبرها إلى المناهج السودانية، ولتلافي أزمة انقطاع الاتصالات، وفرت المنظمة برامج تعليمية متكاملة يتم تحديثها كل شهرين دون الحاجة إلى الإنترنت.
وفي كل الأحوال، فإن آثار الحرب المدمرة على العملية التعليمية في السودان التي تطارد الطلاب في الداخل والخارج لا يمكن أن تتوقف آثارها إلا إنهاء النزاع وتوقف الحرب، والبدء في عملية موسعة لإعادة إعمار المنظومة التعليمية من مدارس وكتب ومعلمين.