اليهود.. وميلاد المسيح
ولد نبي الله عيسى عليه السلام في بيت لحم، بالقرب من بيت المقدس، في ظروف تحوطها الكرامات الإلهية، والمعجزات الربانية، حيث حملت به أُمه بكلمة من الله تعالى، ثم أنطقه الله في المهد، ليعلن عبوديته لربه، وطهارة أمه البتول، وما هيأته له الأقدار من الحكمة والنبوة والبر والدعوة إلى الله تعالى، وفقاً لما فصله عنه القرآن في سورتي «مريم» و«آل عمران».
لكن ذلك لم يرُق لبني إسرائيل، حيث اتهموا مريم بالزنى، وجهروا في حقها وولدها بالسوء من القول، حتى كانوا يسمونه ابن البغية، إذ زعموا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قد حملت به أمه سفاحاً، وهو ما سجلوه في تلمودهم حيث قالوا: «يسوع النصارى موجود في لجات الجحيم بين القار والنار! وأمه مريم قد أتت به من العسكري باندارا سفاحاً»(1).
اليهود.. ونشأة عيسى عليه السلام
يقول د. محمد الطيب النجار: «ولما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب، فكان خير مثال للفطنة والذكاء، ولاحت عليه مخايل النجابة حتى أصبح مضرب الأمثال في زمانه، ويُروَى أنه كان يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله، ففشا ذلك في اليهود فدبَّت إلى نفوسهم عقارب الحسد والغيرة، فتقوّلوا عليه الأقاويل، وتوعدوه بالهلاك والويل»(2).
اليهود حاولوا التخلص من عيسى وهو صغير بإخبار الملك هيرودس فأمر بقتل كل صبي يولد في بني إسرائيل
لقد حاول اليهود التخلص من عيسى وهو صغير، فذهب المنجمون منهم وأخبروا الملك هيرودس أنه قد وُلد ملكُ اليهود الذي سيقوض أركان ملك ومملكة هيردوس، فأمر الملك بقتل كل صبي يولد في بني إسرائيل، كما وقع لموسى من قبل، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى ربوة بعيدة، قيل: هي مصر، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) (المؤمنون: 50)، فبقيت هناك سنوات حتى مات هيرودس(3).
اليهود.. ونبوة عيسى عليه السلام
أورد ابن كثير في التفسير عن وهب بن منبه أنه قال: لما بلغ عيسى ابن مريم ثلاث عشرة سنة، أمره الله أن يرجع من بلاد مصر، فاستجاب لذلك ورجع إلى إيليا (بيت المقدس)، وأقام بها حتى بلغ الثلاثين من عمره، وحينئذٍ ظهرت على يديه المعجزات الخارقة، وعلَّمه الله الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
ولم يذكر القرآن متى بدأت نبوة المسيح ابن مريم، إلا أن إنجيل برنابا قد ألمح إلى ذلك، كما جاء في الفصل العاشر: «أنه لما بلغ يسوع الثلاثين من العمر، صعد على جبل الزيتون مع أمه، وبينما كان يصلي لله إذا بنور باهر قد أحاط به، وعدد من الملائكة، فقدم له الملاك جبريل كتاباً كأنه مرآة براقة، فنزل في قلب يسوع الذي عرف به ما فعل الله، وما قال الله، وما يريد الله، ولما تجلت هذه الرؤيا ليسوع وعلم أنه نبي مرسل إلى بني إسرائيل، كاشف مريم أمه بكل ذلك»(4).
المسيح نشر دعوته إلى التوحيد بين اليهود بعدما بلغوا قمة الانحراف عن الشريعة التي نزلت على موسى
أخذ المسيح في نشر دعوته إلى التوحيد في مجتمع يهود بعدما بلغوا القمة في الانحراف عن الشريعة الربانية التي أنزلها الله على موسى، التي أكدها وبيَّنها كل من جاء بعده من الأنبياء، فجاء عيسى ليردهم مرة أخرى إلى شريعة الحق.
ففي إنجيل يوحنا (إصحاح 17، عدد 3): «وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته»(5).
يقول عبدالرحمن حبنكة: لكن اليهود رفضوا دعوته وأنكروا رسالته، فاصطدم عيسى بجدال الرؤساء الدينيين اليهود المنحرفين عن أصول الشريعة الربانية، فحاجَّ الفرِّيسيين، والكتبة، والكهنة، والصدوقيين، فأفحمهم بحججه البالغة، وبين فساد طريقتهم، وفضح رياءهم وخبثهم، حتى ضاقوا به ذرعاً، فاجتمع الأحبار والعظماء، وقالوا: إننا نخاف من عيسى أن يفسد علينا ديننا ويتبعه الناس، فقال لهم رئيس الكهنة واسمه قيافا: لئن يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره.
وكانت هذه فتوى منه باستباحة دم المسيح ابن مريم، فسعوا لدى الحاكم الروماني في فلسطين بيلاطس النبطي، وحرضوه على قتله، فما زالوا يزينون له شكواهم ضده، ويوغرون صدره على المسيح، حتى قرر الحاكم الروماني التخلص منه بقتله وصلبه، فلما علم عيسى بذلك اعتزل الناس ودخل إلى أورشليم القدس فتلقاه الحواريون هناك، فقال لهم: «إن بعضكم ممن يأكل ويشرب معي يدل عليَّ!».
بعدما رُفع المسيح تفرق الحواريون بالبلاد يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان بالمسيح عبداً ورسولاً
ثم دخل بتلاميذه إلى مكان اجتماعهم المعهود، وكان يهوذا الإسخريوطي وهو أحد تلاميذه الاثني عشر يعرف ذلك المكان، فلما دخل أعوان الحاكم هذا المكان ألقى الله شبه المسيح على يهوذا الإسخريوطي، الذي كان يدل على مجلس اجتماعهم، وغشى الله على أعينهم فلم يروا عيسى، فقتلوا يهوذا وصلبوه، فلما انكشف الأمر بعد الصلب، أخفوا ذلك لئلا يؤمن الناس بديانة عيسى وبصدق نبوته ورسالته(6).
وأكد القرآن هذه الواقعة، وأثبت نجاة عيسى من القتل والصلب بقوله تعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً {156} وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً {157} بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء).
اليهود.. وتلاميذ المسيح
وبعدما رُفع المسيح تفرق الحواريون في البلاد يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بالمسيح عليه السلام عبداً لله ورسولاً، فآمن على أيديهم فئام من الناس؛ فحنق اليهود عليهم، وحرضوا عليهم الملوك والحكام بتهمة أنهم يريدون إفساد المُلك، والخروج عن الطاعة، فنكلوا بهم أشد التنكيل، وساموهم سوء العذاب، وأنزلوا بهم ألوان القتل والاضطهاد.
«بولس» اليهودي استطاع أن يتلاعب بأصول المسيحية وأن يحرِّف ويبدِّل فيها وفق مخطط يهودي محكم
دور بولس اليهودي في تحريف النصرانية
وكان من أشد اليهود حقداً على أتباع عيسى رجل اسمه شاول الذي سمى نفسه «بولس»، كان كثير الإيذاء والاضطهاد لهم، كان يسطو على الكنائس ويسوق أصحابها إلى السجن، ويعذب ويقتل كل من يتبع دين عيسى ابن مريم، كان على ذلك زمن عيسى، وبعد رفعه أيضاً بزمن، ثم أعلن بشكل مفاجئ اتباعه للنصرانية، وادعى أن يسوع هبط عليه بنوره العظيم، وقال له: لماذا تضطهدني؟ فقال له وهو متحير: يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟ فقال: قم وكرز بالمسيحية، ومنذ ذلك الحين نشط بولس بالدعوة إلى المسيحية، معلناً أن عيسى هو ابن الله، حتى صار المعلم الأول للمسيحية، وأحد الرسل السبعين الذين نزل عليهم روح القدس بعد رفع المسيح، لا سيما أنه أقنعهم بأنه يتلقى تعاليمه إلهاماً من المسيح، حيث استطاع بهذه الدعوى أن يتلاعب بأصول الديانة، وأن يحرف ويبدل فيه وفق مخطط يهودي محكم.
اليهود اتبعوا مع عيسى ذلك المنهج الإجرامي الذي يتماشى مع فطرتهم الملوثة منذ ولادته حتى رفعه الله إليه
فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون
من الواضح جداً أن اليهود اتبعوا مع نبي الله عيسى ذلك المنهج الإجرامي الذي يتماشى مع طبيعتهم وفطرتهم الملوثة، منذ ولادته حتى رفعه الله إليه، منهج الاتهام والتشنيع، ومنهج الرفض والتكذيب والقتل لأنبياء الله ورسله، فحاولوا قتله أكثر من مرة، كما قتلوا زكريا، ويحيى، عليهما السلام، وغيرهما من الأنبياء قبله، لكن الله رفعه ونجاه من كيدهم، ثم تفرق أتباعه بمكيدة اليهود وخبثهم من أمة واحدة إلى 3 فرق:
فقالت اليعقوبية: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء.
وقالت النسطورية: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه.
وقال الموحدون منهم: كان فينا عبدالله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه.
بقي لنا أن نتكلم عن موقف اليهود من الديانة النصرانية، في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
______________________
(1) معركة الوجود، عبدالستار فتح الله.
(2) تاريخ الأنبياء، محمد الطيب النجار.
(3) فبهداهم اقتده، عثمان الخميس، بتصرف.
(4) تاريخ الأنبياء، محمد الطيب النجار.
(5) المرجع السابق.
(6) مكايد يهودية، عبدالرحمن حبنكة الميداني (باختصار).