أحل الله عز وجل الطيبات من الرزق لعباده المؤمنين، وأمر بالسعي عليه ورغب فيه، بل جعله غريزة من الغرائز الإنسانية التي تساعد على الحياة الكريمة له ولذريته من بعده، شرط تحري الحلال فيه، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172).
وخير الرزق ما كان من صناعة اليد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (رواه البخاري).
والإسلام لا يقيّم قيمة المهنة حسب شكلها في المجتمع، وإنما قيَّمها استناداً لمبدأ الحلال والحرام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه» (رواه البخاري)، فقيمة العمل في حد ذاته مهما كان هذا العمل قيمة عالية ومقدرة طالما هي في دائرة الحلال وتمنع صاحبها سؤال الناس لحفظ كرامته حتى لو كان مجرد حطاب.
وإطابة المطعم لا تتوقف عند الرزق الحرام فقط، وإنما تمتد للإلحاح في سؤال الناس ومذلة النفس أو العفة عما في أيديهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحريص على كرامة المسلم ورفع شأنه: «لا تلحوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته» (صحيح مسلم).
وقد شدد الإسلام في مسألة إطابة الطعام في غير موضع، منها:
أولاً: أمر الله تعالى:
أمر الله تعالى عباده في مواضع كثيرة بتحري الحلال في المـأكل والمشرب، فهو أمر ليس فيه اجتهاد أو حرية إنسانية، فيه حفظ للمجتمع من التعدي على أموال الآخرين وأملاكهم، وفيه طهارة ورقي أخلاقي، وفيه تعالٍ على الشيطان وعدم اتباعه فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة: 168)، ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172).
وفي معرض تعدد أنواع الحلال للناس يقول تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {4} الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة).
ويقول تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ {66} وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {67} وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ {68} ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل).
ثانياً: إطابة المطعم من أسباب قبول الدعاء:
عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قاَل رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا، وإنَّ الله أَمَرَ المُؤمِنينَ بِمَا أَمَرَ به المُرْسَلينَ فقال تعالى: (يا أَيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيَّباتِ واعمَلُوا صالحًا)، وقال تعالى: (يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ يا رَبُّ يا رَبُّ، ومَطْعَمُهُ حَرَامٌ، ومَشْربُهُ حَرَامٌ، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحَرَامِ، فأَنَّى يُسْتَجَابُ لهُ» (رَوَاهُ مُسْلمٌ)؛ أي: أن الأكل من الطيبات ينفع صاحبه، فإذا دعا وهو يأكل الطيبات؛ فإنه يكون قد ابتعد عن مانع من موانع قبول الدعاء وهو أكل الحرام.
لكن هناك أموراً أخرى تمنع من قبول الدعاء، مثل كون الإنسان يدعو وقلبه غافل، أو يستبطئ الإجابة، ويقول: دعوت ودعوت ولم يستجب لي، كل هذا من أسباب عدم قبول الدعاء، لكن الذي ورد في الحديث: أن من أسباب عدم قبول الدعاء كون الإنسان يأكل الحرام، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذا الرجل الذي ضرب به المثل أنه لا يُقبل دعاؤه؛ وذلك لأنه اكتسب الحرام وكان مأكله ومشربه حراماً مع أنه وجد منه عدة أسباب من أسباب قبول الدعاء، ومع ذلك فإن الأكل من الحرام صار صارفاً ومانعاً من القبول(1).
ثالثاً: حرص النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته على إطابة المطعم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم من أحرص خلق الله على تحري الحلال وتنبيه صحابته لخطورة الحرام والتهاون فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيَهَا» (متفق عليه)، وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنْها قالت: كانَ لأبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الخَرَاجَ، وكانَ أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِن خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بشَيءٍ، فأكَلَ منه أبو بَكْرٍ، فَقالَ له الغُلَامُ: أتَدْرِي ما هذا؟ فَقالَ أبو بَكْرٍ: وما هُوَ؟ قالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ، وما أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إلَّا أنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فأعْطَانِي بذلكَ؛ فَهذا الذي أكَلْتَ منه، فأدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شيءٍ في بَطْنِهِ. (رواه البخاري).
ونبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الصدقة لا تقبل إلا أن تكون من حلال فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَتَصَدَّقُ أحَدٌ بتَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، إلَّا أخَذَها اللَّهُ بيَمِينِهِ، فيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أوْ قَلُوصَهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ، أوْ أعْظَمَ» (متفق عليه).
وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
قال سهل بن عبدالله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم(2)، وقال وهيب بن ورد: لَوْ قُمْتَ قِيَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ(3).
_________________________
(1) كتاب شرح الأربعين النووية لعبد المحسن العباد، ج17، ص6.
(2) تفسير القرطبي.
(3) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني.