ربما كان ولم يزل من الشائع أن الأسباب الرئيسة وراء وجود ظاهرة الإلحاد، وهي ظاهرة قديمة، تعود بالأساس لجذور فلسفية وعقلية أو خلقية، فبعض الملحدين تنتابهم حالة من التشكك في وجود «إله» يدير هذا الكون بعدما أخضعوا النظر إليه لعقولهم محدودة القدرات، فيما أن آخرين أبت نفوسهم الخضوع للتوجيهات والتعليمات التي يفرضها «الإله» فكان إلحادهم تعبيراً عن حالة من التمرد على «الإله» ذاته، وهي الحالة التي حاولت التماس مبررات عقلية كذلك فوصمت «الإله» بصفات النقص والعجز والقسوة وغيرها من الصفات لتكون النتيجة النهائية تسويغ هؤلاء لأنفسهم فعل الإلحاد.
والحقيقة أن هذه الدوافع بما حملت من شبهات ظلت باستمرار الأسباب وراء الأغلبية من الملحدين، إلا أن المجتمعات البشرية شهدت مؤخراً ومع تطور مفهوم الدولة موجة جديدة من الإلحاد كانت دوافعها بالأساس سياسية، إذ كان للتطورات السياسية المتلاحقة أو نتائج الصراعات والحروب فضلاً عن تسيد حالة الفوضى ومحاولات قطع الصلة مع الأنماط الثقافية والاجتماعية والسياسية السابقة على اندلاع الثورات انعكاساتها الجلية على القناعات الإيمانية ووقوع الانحراف العقدي لدى قطاعات من فئات مختلفة تعرضت لما يشبه الصدمة.
الإلحاد و«الربيع العربي»
لم تكن المجتمعات العربية وحتى سنوات قريبة منشغلة كثيرة بظاهرة الإلحاد بوجه عام فضلاً عن الإلحاد ذي الدوافع السياسية، فقد كانت الدعوة للإلحاد وحركة الملحدين محدودة لدرجة كبيرة مقارنة بما هي عليه المجتمعات الأخرى خاصة الغربية، الأمر الذي لم يشكل خطراً حقيقياً على المجتمعات العربية وهو ما كان يدعو هذه المجتمعات لأن تتفاخر بأنها لم تصب بما أصيبت به أوروبا وأمريكا وغيرهما من خواء روحي أدى بالبعض للإلحاد فيما أنها كذلك لا تعاني مما تعاني منه هذه المجتمعات من صراع بين الكنيسة والعلمانيين الرافضين لهيمنتها على كل شيء.. غير أن ذلك لم يمنع بالطبع من تعاطي بعض المؤسسات والشخصيات الدعوية في عالمنا العربي للقيام بدورها في تفنيد شبهات الملحدين والرد عليها من باب تحصين بقية أفراد المجتمع وحداً من التشويش المراد لهم.
هذه الحالة من الاستقرار العقدي، إن جاز التعبير، في عالمنا العربي وفي أعقاب تفجر ثورات «الربيع العربي» التي تعد لحظة تاريخية فارقة انتابت هذا الاستقرار العقدي هزة لفتت نظر الجميع خاصة أن أغلب مظاهرها تجسدت في قطاع الشباب في إشارة إلى مدى الخطورة التي تستلزم التوقف ومحاولة المعالجة.
وهنا ربما يرى بعض الباحثين ومنهم الفرنسي ألكسيس دي توكفيل أن التحولات السياسية الجذرية يعقبها تحولات اجتماعية عميقة إذ يقول: «بعد أن تكتمل الثورة سيظل ما خلّفته من عادات ثورية قائمة في الأمة زمناً طويلاً وسوف تعقب الثورة اضطرابات اجتماعية عميقة»، ومن ثم وبحسب رؤية البعض فإن تنامي ظاهرة كالإلحاد أمر طبيعي مستشهدين بالعديد من النماذج التاريخية كالذي حدث مثلاً في بريطانيا عام 1886م في أعقاب فوز الملحد تشارلز برادلاف في انتخابات البرلمان، وهو ما كان له أثره الكبير على الأرضية الثقافية في بريطانيا ليصبح الإلحاد جزءاً من منظومة السلطة، أو كالذي حدث في فرنسا حيث كان الإلحاد بحسب وصف د. زينب عبدالعزيز في كتابها «الإلحاد وأسبابه: التاريخ الأسود للكنيسة»، بمنزلة شكل نضالي لمذهب الإنسانية في صراعه مع الاستبداد الكنسي.
لكننا بالطبع وبشكل حاسم لا يمكن أن نتقبل عقلياً هذه المقولات كتفسير للظاهرة بعالمنا العربي، فإذا كان ما سبق تفسيراً للإلحاد في الغرب باعتباره تمرداً أو شكلاً نضالياً ضد هيمنة الكنيسية، فإن هذا لا ينطبق البتة على الإسلام الذي لم يكن يوماً منحازاً للاستبداد أو للقيم التي يمكن أن يرفضها الناس ويثوروا عليها إلا إذا كان ما ترسخ لدى هؤلاء هم فهم مغلوط حول القيم الإسلامية، أو أن لديهم قابلية لهذا الإلحاد فانتهزوا الفرصة للتعبير عن كوامنهم، ومن ثم فإن الأكثر منطقية هو أن يكون الإحباط إزاء إخفاق ربيع الثورات هو الدافع السياسي لفئة ممن اتجهوا للإلحاد، فقد اعتقد هؤلاء وبكل أسف أن الله عز وجل –تعالى الله عما يقولون- لم يف بعهده وتخلى عنهم رغم أنهم أصحاب الحق ورغم أنهم يصلون ويذكرون الله ويناضلون ومع ذلك لم يحالفهم النصر، وهو ما عكس فضلاً عن عدم الرسوخ العقدي مدى القصور في إدراك هؤلاء لحيثيات تحقق سنن الله وقوانينه باعتبارها منظومة شاملة لا يجوز اجتزاؤها ولا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.
القمع والفساد والعنف
ومع خطورة ما سبق، فإن الدوافع السياسية للإلحاد في عالمنا لا تقتصر على «الإحباط»؛ إذ ثمة أسباب أخرى تدفع قطاعات أخرى للانحراف العقدي، ومنها: التوظيف السياسي من قبل الأنظمة القمعية للدين واستخدامه كأداة لتسويغ هذا القمع، والدفع ببعض المحسوبين على المؤسسة الدينية الرسمية لدعم هذا الاستبداد وتبريره والدعوة للرضا به؛ الأمر الذي يفرز فئتين تتخذان موقفاً معادياً للدين؛ أحدهما العلمانيون الذين ينادون بإقصاء الدين وإبعاده عن الحياة العامة وحصر دوره في المسجد وما يتعلق بالعبادات، وأما الثانية وهي الأخطر باتخاذها رد فعل متطرفاً حيث رفض الدين جملة وتفصيلاً.
كما أن هناك شكلاً آخر من الأنظمة يجمع بين الأمرين، فهو من ناحية يمارس الاستبداد والتوظيف السياسي للمؤسسة الدينية لتحقيق أهدافه، ومن ناحية أخرى يتبنى العلمانية كمنهج للحكم فيفتح الباب على مصراعيه لاتخاذ مواقف سلبية من الدين.
ويأتي فساد علماء الدين ورجال المؤسسة الدينية وسلوك بعضهم الشائن من المحسوبين على النظام الحاكم الذين يستظلون بحماية الدولة كدافع سياسي آخر للإلحاد، فالبعض من ضحال الثقافة الدينية لا يميزون بين سلوك الأشخاص حتى ولو كانوا من أصحاب العمائم أو الدرجات العلمية الشرعية، وبين الدين ذاته فيخلطون بين السلوك الشخصي والتوجيهات الدينية لتكون النتيجة رفضاً للدين وتعالياً عليه.
وأما ثالثة الأثافي فتتمثل في بعض التنظيمات والجماعات الدينية التي اتخذت العنف المسلح منهجاً لتحقيق أهدافها ملتمسة لذلك كل سبيل وتأويل، إذ اعتقد البعض أن سلوك هؤلاء يعبر عن حقيقة الدين وتعليمات الله عز وجل وهو ما رفضت عقولهم التسليم به، ففتحت هذه التنظيمات بذلك باباً لانحراف البعض وقد عمت أبصارهم عن النظر إلى جمهور الأمة الذين رفضوا سلوكاً مثل هذه التنظيمات، معتبرين مناهجها شاذة ومتطرفة.
ولعل الاستعراض السابق لطبيعة الدوافع السياسية للإلحاد، يحدد لنا بعضاً من الدور المنوط به الدعاة في مواجهة هذه الظاهرة الذي يمكن إجماله في الآتي:
– العمل على التقرب قدر المستطاع من فئة الشباب مع الاستعانة بكل الوسائل العصرية المناسبة لتقديم جرعات ثقافية دينية مؤصلة.
– التأكيد على أن الوعود الإلهية لا شك فيها، غير أن تحققها يستلزم شروطاً، وأن غيبة بعضها يعني احتمالية عدم التحقق، والاستدلال على ذلك بشواهد ووقائع من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، كغزوتي «أُحد»، و«حنين» أو من التاريخ.
التنبيه على أن ثمة فرقاً بين السلوك والقيم، وأن الرجال يعرفون بالحق وليس العكس، وعليه فليس أحد حجة على الدين.