في بداية الدعوة الإسلامية، جاء رجل أعمى إلى رسول الله ﷺ وهو يدعو كبار قريش إلى الإسلام، فلم يلتفت إليه الرسول ﷺ، فلما ألحَّ عبدالله بن أم مكتوم، عبس النبي ﷺ في وجهه، فعاتبه الله تعالى لكسره خاطر أعمى جاء إليه، وهو الذي أنزل الله في شأنه قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى {4} أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى {5} فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى {6} وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى {7} وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى {8} وَهُوَ يَخْشَى {9} فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس)، وفي هذه الواقعة دعوة إلى جبر الخواطر وعدم كسرها مهما حدث.
الرسول ﷺ يجبر خاطر الناس
كان رسول الله ﷺ مثالاً يحتذى في جبر الخواطر، فقد روى البخاري عن أنس أنه قَالَ: «إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ»، والنبي ﷺ لا يكسر بخاطرها، بل إنه صلى الله عليه وسلم سئِل: أيُّ الناسِ أحبُّ إلى الله؟ وأيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟، فقال: «أحبُّ الناسِ إلى الله أنْفَعُهم لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعْمالِ إلى الله عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدْخِلُه على مسلمٍ، تَكْشِفُ عنه كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عنه دَيْناً، أوْ تَطْرُدُ عنه جُوعاً، ولأَنْ أَمْشي مَعَ أخٍ في حاجَة؛ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ في هذا المسجِدِ -يعني مسجدَ المدينَةِ- شَهْراً».
ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم في جبر خواطر أصحابه ما كان منه حين لقي صاحبه جابراً بن عبدالله منكسراً بعد استشهاد أبيه في غزوة «أُحد»، ففي سنن الترمذي عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ قال: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: «يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ»، قَالَ: «وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا)». إنه يجبر خاطره ويسري عنه بحديثه عن مقام والده في الجنة.
شهادة السيدة خديجة بجبر الرسول ﷺ للخواطر
لقد شهدت السيدة خديجة رضي الله عنها بجبر الرسول ﷺ للخواطر، ففي صحيح البخاري ومسلم، لما نزل الوحيُ على رسول الله ﷺ في غار حراء لأول مرة، رجع إلى خديجةَ رضي الله عنها فأخبَرَها الخبر وقال: «لقد خشيتُ على نفسي»، فقالت له رضي الله عنها: كلَّا، والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
الرسول ﷺ لم ينس مَنْ جبر خاطره
لم ينس ﷺ يوماً مَن جبر خاطره أو وقف بجانبه، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن جُبير بن مُطعِم أن النبي ﷺ قال في أسارى «بدر»: «لو كان المطعم بن عَديٍّ حيًّا ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتُهم له»؛ وذلك أن المطعم بن عدي كانت له عنده ﷺ من اليد حين رجع من الطائف في جواره.
الرسول ﷺ يجبر خاطر الحيوان
ويضاف إلى مواقفه ﷺ في جبر الخاطر ما كان منه حين جبر خاطر الحيوان، فقد روى أبو داود عن عبدالله بن جعفر قال: دخل رسول الله ﷺ يوماً حائطاً (بستاناً) من حيطان الأنصار، فإذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه، قال بَهْز وعفان: فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله ﷺ سَرَاته وذِفْراه (ظهره وأذنيه)، فسكن، فقال: «من صاحب الجمل؟»، فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال ﷺ: «أما تتقى الله في هذه البهيمة التي ملككها الله؟ إنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه (تتعبه)».
الرسول ﷺ يجبر خاطر الجماد
روى الترمذي عن أنس بن مالك، أن النبي ﷺ كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد فيخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئاً تقعد عليه وكأنك قائم؟ فصنع له منبراً، له درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله ﷺ على ذلك المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد؛ حزناً على رسول الله ﷺ، فنزل إليه رسول الله ﷺ من المنبر فالتزمه (ضمه إليه) وهو يخور، فلما التزمه رسول الله ﷺ سكن، ثم قال: «أما والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة».
الرسول ﷺ يأمر بجبر الخواطر
لقد دعا رسول الله ﷺ إلى جبر خواطر الناس، فأمر من لقي أخاه أن يبتسم في وجهه، حيث روى الترمذي عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله ﷺ قال: «تَبَسُّمُك في وَجْه أَخِيك لك صدقة»، وروى البيهقي أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّكُمْ لا تَسَعون النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْط الْوَجْه، وَحُسْنُ الْخُلُق».
ومن مظاهر دعوته ﷺ إلى جبر الخاطر تأكيده أن أعمال المعاونة للآخرين صدقة يثاب بها المسلم، فقد أخرج الترمذي عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله ﷺ قال: «أمرُكَ بالمعروفِ ونَهيُكَ عنِ المنْكرِ صدقةٌ، وإرشادُكَ الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالِ لَكَ صدقةٌ، وبصرُكَ للرَّجلِ الرَّديءِ البصرِ لَكَ صدقةٌ، وإماطتُكَ الحجرَ والشَّوْكَ والعظمَ عنِ الطَّريقِ لَكَ صدقةٌ، وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ».
بل إنه ﷺ دعا إلى الوقاية من النار بجبر الخواطر، فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله ﷺ قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
ومن مظاهر دعوته ﷺ إلى جبر الخواطر وعده أن من جبر خاطر الناس جبر الله تعالى خاطره، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ نَفَّس عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبةً منْ كُرب الدُّنْيا نفَّس اللَّه عنْه كُرْبةً منْ كُرَب يومِ الْقِيامَةِ، ومَنْ يسَّرَ عَلَى مُعْسرٍ يسَّرَ اللَّه عليْهِ في الدُّنْيَا والآخِرةِ، ومَنْ سَتَر مُسْلِمًا سَترهُ اللَّه فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ».
وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ».
الرسول ﷺ يعلمنا أن ندعو الله في صلواتنا أن يجبر خواطرنا
في سنن ابن ماجه بسند حسن عَنْ عبدالله بن عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْزُقْنِي، وَارْفَعْنِي».