العدل اسم من أسماء الله الحسنى، وتحقيقه في الكون غاية من غايات إرسال الرسل، وإنزال الكتب، فقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز) (الحديد: 25)، وقد زاوج الله تعالى في الآية الكريمة بين الكتاب والميزان، أو بين الوحي الصادق والعدل الواثق، ووحّد الغاية من إنزالهما ليقوم الناس بالقسط، وأعلم الله عباده أن تحقيق العدل يحتاج قوة تقيمه، وتدافع عنه، فأنزل الحديد، به يتسلح دعاة العدل والحق، وبما أودعه فيه من بأس شديد ينتصر أنصار الرسل، وحملة الكتاب.
وصرامة العدل تأبى أن يميل من ينتصبون لتحقيقه بعض الميل، لهوى عصباني، أو مشتهى نفساني، أو غضب شهواني، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: 135)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، وهنا نستبين أن فوق العدل المرجو مرتبتي التقوى والإحسان، وأن دعاة العدل ينبغي أن يطمحوا إلى مرتقيهما؛ اعدلوا هو أقرب للتقوى، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ) (النحل: 90).
وبالعدل قامت السماوات والأرض، فلا وجود له إلا بشمول إنفاذه، في حياة المجتمعات والتشريعات وأمور الحكم والسياسات، وذلك بتوسيد الأمور إلى أهلها، وأداء الحقوق إلى أصحابها، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء: 58).
والسلطة السياسية القائمة على منهاج العدل ضمان لقمع الظلم، ورد المظالم، ومجاهدة أنظمة الجاهلية والبغي، وكبح جموح الإنسان حين جهله وطغيانه وانقياده لهواه؛ (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: 72)، (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (العلق)، فالظلم مؤذن بخراب البلدان، على حد قول ابن خلدون، ولذا قال ابن تيمية: إنَّ الله ينصر الدَّولة العادلة؛ وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدَّولة الظالمة، ولو كانت مسلمة، بالعدل تُستصلح الرِّجال، وتُستغزر الأموال.
إن إقامة العدل في الدنيا يعني جهادًا لا هوادة فيه على مستوى النفس الإنسانية حتى تسلم للحق قيادها، وعلى مستوى الجماعات والمنظمات حتى يستقيم بناؤها، وعلى مستوى الأمم والحكومات حتى تضمن عافيتها في داخلها، وقوتها إزاء أعدائها، وهو بعد ذلك، وبسببه، برهان صدق عند الله يقود إلى رضوانه وجناته، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).
ولا شك في أن إقامة دولة العدل ومجتمع المقسطين يستلزم ولايتهم وتناصرهم، ولا تحقق الموالاة والنصرة إلا بسلامة العقيدة الإيمانية، وحيويتها وحاكميتها، كما قال تعالى: (كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) (الصف: 14).
وقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يبحث عن تاك النصرة العقدية المنشودة سنوات وهو يعرض نفسه على قبائل العرب، حتى قيَّض الله تعالى له أهل المدينة فكانوا خير أنصار؛ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) (الحشر: 9)، فتأسست دولة الإسلام الأولى على قواعد الهجرة والنصرة.
وظلت نصرة المؤمنين حيث كانوا هدفًا للدولة الإسلامية، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحرك جيشه لنجدة امرأة مسلمة راودها يهود بني قينقاع على كشف وجهها، وقتلوا مسلمًا ثار غضبًا لها، فحاصرهم حتى أجلاهم عن المدينة كلها، وحرك أبو بكر جيوشه لمحاربة من منعوا حقوق الناس في الزكاة، وأرادوها اكتنازًا وأثرة.
وأعاد قتيبة بن مسلم غزو مدينة بيكند في بخارى غضبًا لقتلهم واليهم المسلم بمن معه، وأوقع مقاتليها بين قتيل وأسير، وأمر الحجاج بن يوسف الثقفي بفتح بلاد السند بعدما اعتدى قراصنتهم على سفينة تحمل نساء مسلمات، وكان الغضب لامتهان الحرائر المسلمات سببًا لغزو المعتصم العباسي آسيا الصغرى وفتح عمورية عام 223هـ استجابة لصرخة امرأة مسلمة هتفت: «واإسلاماه!»؛ وقتل صلاح الدين بيديه الأمير الصليبي أرناط، بعد عدوانه على قافلة تجارية مسلمة عام 572هـ وتطاوله على مقام رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم.
ولا تفارق فريضة نصرة المظلومين عامة المسلمين حتى لو لم تكن لهم دولة راعية، فأخوة الإيمان أصل ملازم لجوهره؛ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقد أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تأخذ فوق يديه» (رواه البخاري).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله» (رواه مسلم)، وتساءل صلى الله عليه وسلم مستنكرًا: «كيف يقدِّس الله أمَّة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟»، وقال: «مَن أُذلّ عنده مؤمن؛ فلم ينصره -وهو قادر على أن ينصره – أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة» (رواه أحمد)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته؛ ويُنتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه؛ وينتهك من حرمته؛ إلا نصره الله في موطن يحب نصرته» (رواه أحمد وأبو داود).
الإسلام ثورة على الظلم
وكانت رسالات السماء ثورة على مظالم طغاة الأرض، وانتصارًا للمستضعفين الذين قمعتهم الفرعونية السياسية، كما قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ) (القصص: 4)، والذين أذلتهم القارونية المستغلة كما قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) (القصص: 76)، وأرسل الله شعيبًا إلى قومه بدعوة التوحيد مقرونة بالعدل الاجتماعي؛ (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود: 85).
وكان تشريع الجهاد استنقاذًا لشعوب طال خضوعها لأنظمة القهر الديني والسياسي في مواطن الفرس والروم، حيث كان حكامهم يتألهون، ويعتقد بعضهم أن دماء مقدسة تجري في عروقهم، وفرض آخرون معتقداتهم المذهبية الدينية على مخالفيهم بالحديد والنار، فجاء الفتح الإسلامي طوق نجاة لهؤلاء جميعًا.
ولم يعرف العالم فاتحًا أرحم من العرب، كما يقول جوستاف لوبون، ومعلوم كيف انتفض عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا من ابن فاتح مصر عمرو بن العاص لما ضرب ابن قبطي سابقه فسبقه القبطي، فأمره عمر بالقصاص من ابن الأمير، وقال: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!».
والسعي لنصرة المستضعفين أحد أسباب الجهاد في دين الله؛ (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء: 75)، فإن عجز المسلمون على نجدة إخوانهم، فلا أقل من مواساتهم والدعاء لهم، وبذل الوسع في نصرتهم، فقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء للمستضعفين من المسلمين في مكة، ويسميهم بأسمائهم في دعائه، وقد كان عمر بن الخطاب يقول: لإن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفار أحب إليَّ من جزيرة العرب.
لقد كثرت المظالم في بلاد المسلمين، وازداد المستضعفون، وقلَّ الناصر، وما زال كثير من شعوبنا يدفعون ضريبة الاستبداد في شتى صوره، وإن أهلنا اليوم في فلسطين يقاسون ظلمًا لم يعرف العالم مثيلاً له، ويستنصرون إخوانهم، فهل إلى جواب من سبيل؟ جواب يبرئ الذمة في الدنيا أمام قيم الإنسان الحر، وفي الآخرة أمام رب السماوات والأرضين؟