جاء الإسلام بمنظومة قيمية شاملة، العدل فيها أحد جواهرها، وهو الركيزة المهمة لتأسيس مجتمع إسلامي مستقر ومزدهر، لا تفرقة فيه بين عرق أو جنس أو لون، وقد جاء الأمر بالعدل صريحاً في عدة آيات من كتاب الله تعالى، منها قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، وفي الآية بيان لعناية الإسلام بغرس قيمة العدل وجعلها نابعة من الإيمان بالله عز وجل رأسًا، ثم يأتي بعد إدراك قيمته الفراغ لتزكية النفس بضبطها وكبح زمام عدوانها على نفسها أو الآخرين، فالعدوان يعجل بهلاك الأمم والأفراد؛ لذا وجب الحرص على تعلم مفهوم العدل وكيفية تطبيقه لتحقيق أمر الله عز وجل به.
مفهوم العدل في الإسلام وأهميته
العدل في الإسلام يعني «أن تُعطيَ مِن نَفسِك الواجِبَ وتَأخُذَه»(1)؛ أي هو القدرة على وضع الأمور في نصابها الصحيح وإعطاء كل ذي حق حقه، وليس العدل في الإسلام مجرد قيمة أخلاقية اختيارية، بل هو واجب شرعي يتعين على المسلم الالتزام به في كل تعاملاته، يقول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ واتَّقُوا اللَّهَ ۚ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، في أمر صريح بالعدل سواء مع الصديق أو العدو، فالعدل طريق التقوى والإيمان، وكلما اجتهد العبد في القيام به كان قلبه أقرب لكمال التقوى.
خطوات عملية لتكوين مسلم عادل
العدل في الإسلام ليس مجرد مفهوم نظري، بل مبدأ عملي يجب تحقيقه في كل جوانب الحياة، والمتأمل في الآية السابق ذكرها يجد الكثير من الوسائل المعينة على قيام المسلم بالعدل، ومنها:
1- إخلاص النية:
(كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)؛ بالرغم من وجوب إخلاص المسلم كل أعماله لله، جاء هذا الأمر الصريح بالإخلاص لله في تحقيق العدل، لأن الرياء أو السعي للمصالح الشخصية وحدها مدعاة للظلم والحياد عن الحق، فيجب أن ينقي المسلم قلبه من هذه العلائق لكي يدور مع الحق حيث دار.
2- تعلم الإيمان:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ فالنداء الموجه في الآية للمؤمنين أن يدفعهم إيمانهم بالقيام بالعدل، وفيه إشارة واضحة لأهمية تعلم الإيمان لكي يتم تطبيق العدل في حياة المسلم، وأثر ذلك عليه؛ لذا ينبغي أن يُسعى دائماً لتعلم أحكام الدين والفقه فيه، لفهم كيفية تطبيق العدل في مختلف جوانب الحياة.
3- ضبط النفس:
(لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا)؛ وفي الآية الأمر بضبط النفس وعدم انقيادها خلف الأهواء التي تدفعها إلى الظلم، فإن العبد قد لا يملك ميل قلبه؛ ولكنه يملك فعله، فكما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقسِّم بين نسائهِ فيعدلُ، ويقولُ: «اللَّهمَّ هذا قَسمي فيما أملِكُ، فلا تلُمْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ»(2)، فهذا تأكيد قدرة العبد على ضبط أفعاله رغم ميل قلبه لبعض الأمور، فإن مشاعر المحبة أو الكره أو الغيرة أو الكبرياء أو الانتقام.. إلخ، قد تؤدي إلى ظلم الإنسان لغيره وعدم تقبله للحق منه، فينبغي في هذه الحالة أن يردع العبد نفسه حتى يقف على العدل الذي أمره الله به.
4- التدريب على التفكير النقدي:
(شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)؛ لكي يشهد المسلم بالعدل لا بد أن يمتلك قواعد التفكير السليمة؛ ما يساعده على تحليل المواقف تحليلاً دقيقاً وصحيحاً، من خلال التركيز على الحقائق والمعلومات المتاحة، بعيداً عن المغالطات المنطقية أو الانسياق وراء الأهواء؛ لذا يجب أن يتدرب المسلم على التفكير السليم وبخاصة التفكير النقدي؛ ما يزيد ثقته بنفسه وقدرته على الحكم في الأمور بصورة دقيقة.
5- مراقبة الله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)؛ من أهم ما يُعين العبد على العدل وعدم الظلم مراقبته لله تعالى في أفعاله، فهو عبد لرب خبير بنوايا عباده وأفعالهم التي لا تخفى عليه، وهو خبير بما فرضه عليهم من أحكام، فيجب على العبد أن يتبع حكم الله وما أمره به ولا يتبع أهواءه؛ فهو مجازى عما يفعله.
6- المحاسبة الدائمة للنفس:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ)؛ ومما يبعد عن الظلم ويعين على العدل التقوى والمحاسبة الدائمة للنفس، فالمراجعة الدورية للقرارات والمواقف والاعتراف بالأخطاء وتصحيحها فوراً من أهم علامات التقوى، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201)، فهذه المراجعة تُحسن من قدرة المسلم على اتخاذ قرارات مبصرة عادلة في المواقف القادمة.
7- الالتزام بالأخلاق والآداب الإسلامية:
فإن التزام المسلمين بمنظومة الأخلاق والقيم الإسلامية مثل الصدق والأمانة والتسامح والتواضع وكظم الغيظ وغيرها من الصفات، يكف عن العدوان على الآخرين، فعن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»(3).
8- الوعي والتثقيف المستمر:
فقراءة التاريخ الإسلامي وما فيه من عبر وعظات لآثار العدل والظلم في الأمم يؤثر في العقل ويضبط النفس، قال الله تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل: 52)، وكذلك تأمل قصص السيرة النبوية وقصص الصحابة والسلف الذين طبقوا العدل في حياتهم؛ فهي مرشدة ملهمة، وأيضًا تنمية المهارات الشخصية من خلال دراسة علوم مثل فهم أنماط الشخصية، وطرق التواصل الاجتماعي، وإدارة المواقف، فكل ذلك مما يجعل المسلم قادراً على فهم المواقف المختلفة وإصدار قرارات حكيمة عادلة.
إن وعي العبد بهذه القيمة وأهميتها واتباع الخطوات السابقة لتحصيلها يساعد المسلم على تطبيق العدل في حياته الشخصية والاجتماعية، وكذلك فإنه يساهم في بناء مجتمع أكثر توازناً وسلاماً، فالالتزام بالعدل كأمر شرعي يمهد لأن يكون نهجًا حياتيًا للجماعة المسلمة لا الفرد فحسب، مما يؤدي إلى عموم الخير والبركة في الدنيا والآخرة.
_____________________
(1) الأخلاق والسير، ابن حزم، ص81.
(2) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن كثير، وابن الملقن، وغيرهم.
(3) رواه البخاري.