كانت العلمانية مثار دراسة عدد كبير من الدارسين في الشرق والغرب، ورغم وفرة الدراسات وتنوع مداخل البحث فيها، فإن موضوع العلمانية لم يزل قابلاً للبحث والدراسة حتى لدى الباحثين الغربيين، لسبب جوهري؛ وهو أن مفهوم العلمانية يعد واحداً من المفاهيم المتنازع فيها بشدة، كما يصفه الفيلسوف البريطاني وليام جالي، ومن ثم هناك محاولات عدة لضبطه قام بها فريق من الدارسين الغربيين من مثل طلال أسد، وخوسيه كازانوفا، وتشارلز تايلور، والأخير يعد واحداً من أهم نقاد العلمانية المعاصرين.
ولد المفكر والفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في مقاطعة كيبك الكندية عام 1931م، وتخرج في جامعة ماكجيل عام 1952م، وواصل دراساته العليا في جامعة أكسفورد حيث نال درجة الدكتوراة في الفلسفة عام 1961م، ثم عاد لوطنه وعمل أستاذاً جامعياً في جامعة ماكجيل ثم نورث ويسترن، وله عدد من المؤلفات النقدية للعلمانية وأشهرها «عصر علماني»، و«ما بعد العلمانية».
العلمانية عند تايلور
في كتابه «عصر علماني» ينطلق تايلور من سؤال مركزي يطرحه في السطر الأول من الكتاب: ماذا يعني القول: إننا نعيش في عصر علماني؟ وهو يحيلنا إلى 3 معان أساسية للعلمانية، أو بعبارة أدق لمصطلح العلماني في سياقه التاريخي الغربي:
الأول: أن الفضاء العمومي بات مقطوع الصلة بالدين؛ ففي مجتمعاتنا العلمانية يمكنك أن تنخرط بشكل كامل في الحياة العامة من دون أن تلقى الله البتة، أو من دون حاجة للإيمان بإله مفارق كما يقول.
الثاني: تراجع الممارسات والطقوس الدينية، حيث تحول الدين إلى شأن شخصي، فنحن لا نرى الآن الصلوات إلا في الكنائس التي باتت معزولة عن محيطها العام ولا يؤمها إلا نفر قليل.
الثالث: التحول من مجتمعات إيمانية، إلى مجتمعات ترى الإيمان خياراً من بين خيارات أخرى عديدة، بل هو خيار لا يمكن استساغته بسهولة، ويفترض تايلور أن هذا المعنى هو الأهم في تحديد ماهية العلماني بفعل ما أحدثه من تحولات عميقة ليس على مستوى المؤسسات والهياكل الكبرى، وإنما على مستوى النفس أو الذات الإنسانية.
التطور التاريخي للعلمانية
يعتقد تايلور أنه لا يجوز النظر إلى العلمانية بمعزل عن السياق التاريخي الذي نشأت فيه، واعتبارها قابلة للتطبيق على جميع المجتمعات؛ لأن الأفكار ليست كالأحجار، وإنما تخضع للتحوير في كل مرة تنقل فيها من سياق إلى آخر، بل وتكتسب معاني متجددة على مر الزمان، وعلى سبيل المثال لقد دشنت العلمانية نفسها في أعقاب حركة الإصلاح الديني في أوروبا، وكانت تشير إلى كل ما هو زمني في مقابل الديني أو الكنيسة؛ أي أنها وضعت للتمييز بين مجالين كان يُعتقد أنه لا انفصام بينهما، إذ وصفت الدولة بكونها «الذراع الزمنية للكنيسة»، ووفقاً لهذا فإن عملية العلمنة كانت تعني «عملية نقل وظائف وممتلكات ومؤسسات من يد الكنيسة ليد أفراد عاديين».
لكن منذ القرن السابع عشر -قرن الحداثة- بدا أنه حدث امتداد لمفهوم العلمانية، إذ اختفت ثنائية الزمني والديني وحل محلها ثنائية الواقعي؛ أي المادي والمتخيل الديني، وصحب ذلك متغيران أساسيان؛ الأول: استبدال التصورات القديمة التي كانت ترى أن المجتمع الفاضل هو مجتمع يتصل أفراده بالله وعالم الغيب، وفيه حلت المنفعة المتبادلة محل الإله، وصارت معياراً لخيرية المجتمع.
والثاني: وصم الديني أنه محض اختلاق وتخيل، وفي أفضل الأحوال ليس إلا سحراً وخرافة؛ ومن ثم فإن عملية العلمنة صارت توصف بأنها عملية «نزع السحر» والخرافة عن العالم، وكان قوامها العقلانية المفرطة ورفض كل ما هو خارج عن إطار المحسوس.
وتأسيساً على هذا، يعتقد تايلور أن مفهوم العلمانية مفهوم معقد وغامض، وأن دلالاته والإحالات التي يشير إليها متغيرة، وإذا أردنا فهمه فهماً دقيقاً علينا النظر إليه من خلال منظور ثقافي، يردها إلى سياقها التاريخي الغربي الذي نشأت فيه وينظر في علاقتها بالحداثة، كما أن علينا إعادة تعريفه بحيث يسمح بحضور واسع للدين في المجال العام.
الدين في العصر العلماني
ينتهي تايلور في جميع كتبه إلى ضرورة إعادة الدين إلى المجال العام، ذاهباً إلى أن التحليلات التي جعلتنا نتخيل أن الدين انتهى بفعل الحداثة والعلمانية ما هي إلا تحليلات وهمية؛ لأن المادة لم تعد قادرة على أن تمنح الإنسان معنى لوجوده وأفعاله، ولذلك فإن كثيراً ممن ينتمون إلى قيم الحداثة في الغرب يؤمنون بالله وهو «مصدر لا غنى عنه من أجل الطاقة اللازمة لإدخال النظام إلى حياتنا الفردية والاجتماعية على حد سواء»، ومن جانب آخر فإن الإيمان يحقق للإنسان الشعور بالامتلاء، وبدونه يشعر بالخواء التام.
ويردف تايلور أن الدين لا يمكن أن يختفي كما زعم آباء الحداثة، وأن حضوره في المجتمع اليوم مختلف كثيراً عما كان عليه من 5 قرون؛ لأنه يرتبط بالزمان والمكان والخلفية العامة لكل عصر، وهذا هو السبب في ظهور قراءات وتأويلات مختلفة للدين في كل عصر، وهذا لا يعني أن الدين تغير؛ لأن جوهر الدين ثابت، ولكن ظاهره متغير، والتغيرات الظاهرية لا تعني أن هناك تغيراً مس الجوهر، وعلى هذا يمكن القول: إن وضع الدين في عصر العلمانية الغربية له شكل مختلف عما سبق، وأنه يتسم بسمتين أساسيتين:
الأولى: أن للأديان حضوراً سلمياً تعايشياً -خلافاً لما كان عليه الوضع فيما مضى حيث الحروب الدينية- بحيث لم يعد وارداً أن يحاول أحد الأديان أو المذاهب فرض نفسه على الآخرين، ويبدو أن هذه الوضعية الجديدة للأديان هي التي سمحت للبعض أن يتوهم غياب الدين.
الثانية: امتزاج الأديان بالنزعة الإنسانية الخالصة، وعلى الرغم من أن الأديان عموماً تكتسي بطابع إنساني وتدعو إلى الأخوة والسلام، فإن تايلور يعتقد أن الحداثة شحنت الأديان بنوع عميق من الإنسانية، بحيث يمكن القول: إنها دخلت سياقاً جديداً مختلفاً عما مضى.
إن أطروحة تايلور بشأن العلمانية تعد من الأطروحات الجادة في نقد العلمانية، وخاصة فيما يتعلق بدحض الثنائيات التي لازمتها فترة طويلة من قبل الديني والزمني، وكونها تجمع بين التفكيك وإعادة البناء، ومن منظورنا فهي تتسم بـ3 سمات: أولها: أنها تنتمي إلى الأرضية الغربية وتتوسل في نقض العلمانية بالمناهج المعترف بها غربياً.
وثانيها: أن صاحبها يؤمن أن صلاحيتها تظل ضمن السياق الثقافي والاجتماعي الغرب، وأن الأفكار لا تنتقل كالأحجار وإنما يصاحبها تحوير وإعادة تأويل؛ وبالتالي فليست العلمانية فكرة كونية يمكن فرضها على مختلف الثقافات والحضارات.
وثالثها: أنها تتيح للمهاجرين المسلمين إمكانية الاحتفاظ بهويتهم العقدية والثقافية، وفي الوقت ذاته لا تحرمهم من الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة.