منذ أيام احتفل المسلمون بمرور 1445 عاماً على رحلة الهجرة النبوية المشرفة من مكة إلى المدينة، لكن على النقيض من الرحلة الأولى، فإن العالم الإسلامي الآن يشهد موجات من الهجرة العكسية من بلاد الإسلام إلى بلاد غير مسلمة، لأسباب عديدة ترتبط بالظروف الخاصة لكل مجتمع.
يشكل المسلمون الآن أكبر أقلية دينية في أوروبا، والإسلام يعد أسرع الديانات انتشاراً هناك، وجاء الحضور الكبير للمسلمين في معظمه نتيجة لتدفق العمال وغيرهم من المهاجرين من الشرق الأوسط والأقاليم المستعمرة السابقة في أفريقيا وآسيا –بما فيها تركيا– وإلى جانب ذلك توجد طوائف كبيرة نسبياً من المسلمين الأصليين في أوروبا الشرقية، لا سيما ألبانيا ويوغوسلافيا السابقة (البوسنة والهرسك على وجه الخصوص) وبلغاريا، لكن الغالبية العظمى من المسلمين تقيم في أوروبا الغربية.
ويتدفق في كل سنة نحو مليون مهاجر، معظمهم من البلدان الإسلامية، إلى أوروبا؛ وقد تضاعف عدد المسلمين هناك في العقد الأخير فبلغ نحو 23 مليون نسمة، أو 5% من سكان الاتحاد الأوروبي، بسبب تضاعف معدل الولادات عند المسلمين في أوروبا حيث يساوي 3 أضعاف معدل الولادات عند الأوروبيين غير المسلمين، وهذا الأخير أخذ في الانخفاض. ومن المتوقع أن يتضاعف عدد المسلمين في عام 2025م، وسيصل بالمعدلات الراهنة إلى 20% من مجموع السكان في عام 2050م.
لكن الشباب والنشء المسلم هناك، وفي أوروبا خاصة، يعاني من أزمة هوية، تتراوح بين العُزلة الاجتماعية من جهة، والاندماج ومعوقاته من جهة أخرى، وتتمثَّل هذه الأزمة في صعوبة التوفيق بين الالتزام بعناصر الهوية الإسلامية من جهة، والانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه وقيمه المتعارضة مع قيم الإسلام من جهة أخرى، وتزداد هذه الإشكالية خصوصًا في الأجيال المولودة هناك، حتى إن إحدى الدراسات الصادرة عن جامعة برلين تتحدث عن واقع التدين في الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين، وأن المرجعية القيمية للإسلام تتراجع عند هذين الجيلين خصوصًا وأنهم نشؤوا بعيدًا عن الإسلام كحاضنة اجتماعية، وهو ما يهدد هذه الكتلة المتزايدة كلما نشأت أجيال بعيدة عن الإسلام كمرجعية وثقافة، يدفعنا هذا الواقع إلى التساؤل عما يجب على الأقليات المسلمة المهاجرة فعله، لتحفظ على الأجيال الناشئة إسلامها وتمرر لها قيمه؟
وعي اجتماعي
يقدم علماء الاجتماع إحدى محاولات الإجابة عن هذا السؤال، فقد تحدثوا عن وعي اجتماعي وجغرافي يمكن الجماعة من موضعة نفسها بشكل صحيح في الإطار الجغرافي والتاريخي الذي تحيا به، مما يدفعها لاتخاذ أنسب التدابير التي تحميها كجماعة، لذا فلا بد أن تمتلك الأقليات المسلمة المهاجرة وعيًا اجتماعيًا يمكنهم من إدراك موقعهم داخل المجتمعات الجديدة التي يحيون فيها، واللحظة التاريخية الراهنة ومن ثم يدركوا فرصهم ومصائرهم، ووعيًا مكانيًا يتناسب مع طبيعة واقعهم وحيواتهم في مجتمعات غير مسلمة، والمقصود بهذا الوعي أن تدرك الأقليات المسلمة الدور الذي يؤديه المكان في حياتهم، والعلاقة بين المساحات المختلفة حولهم، واستيعابهم لطبيعة علاقة الأفراد/الجماعات بالمساحات التي تفصلهم عن بعضهم بعضاً، ومن ثم إدراكهم كجماعة لتأثرهم بالأحداث في الأماكن الأخرى، وهكذا.
هذا الوعي المجتمعي والمكاني هو ما دفع النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة، فبعدما نزل جبريل عليه السلام بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، بدأ دعوته يجتمع مع أصحابه سرًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم يعلمهم دينهم واستمر هكذا 3 سنوات، لكن عندما ضاقت مكة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أذن الله تعالى لهم بالخروج من مكة باعتبارها حيزاً مكانياً يمثل فيه المسلمون أقلية مستضعفة ويحال بينهم وبين تلقي تعاليم دينهم، إلى حيز مكاني آخر هو المدينة، وكان قد جرى إعداده قبل مدة من الهجرة ليكون حاضنة الدعوة وحيزها الجديد.
لذا، فوعي الأقليات المسلمة ابتداءً بموقعها الجديد من الجغرافيا والتاريخ يمثل أحد الشروط الأولية لتمرير القيم للنشء وترسيخها واختيار الآليات المناسبة لذلك، مما يحفظ عليها وجودها الاجتماعي، ويحفظ على شباب المسلمين دينهم، ومن ثم فلا بد على الأقليات المسلمة هناك أن تعزز من وعيهم بذاتهم كجماعة واحدة لها من الخصوصية ما يميزها عن المجتمعات التي تحيا فيها من جهة، وما يجعلها تمتلك ما تفيد به المجتمع من جهة أخرى.
ولا بد وأن ينتقل هذا الوعي الذاتي للأجيال الناشئة عبر عدة آليات، منها: أن يكون الوالدان القدوة لأبنائهما في الالتزام الأخلاقي والتمسك الديني في الصلاة والحجاب والتعامل بالصدق والأمانة والخلق القويم، مع اهتمامهم بتطوير أنفسهم دينياً واجتماعياً وثقافياً وحضور الدورات والبرامج التربوية والإسلامية، وأن يرتبط الطفل منذ صغر سنه بالمحيط الإسلامي المتمثل في المسجد وحلقات التحفيظ وحضور الخطب والجمع والأعياد والمشاركة في الحفلات والمهرجانات الإسلامية في المنطقة، ودراسة القرآن الكريم والعلوم الدينية والاستقاء من منابع تربوية صحيحة، مع ضرورة الإبقاء على ممارسة العادات والتقاليد التراثية التي لها ارتباط ديني المتمثلة في الأجواء الرمضانية والجمعة والأعياد والحج والاحتفاء بالمواسم والذكريات مثل السنة الهجرية وميلاد النبي عليه الصلاة والسلام.
كذلك يجب المحافظة على التحدث باللغة العربية في المنزل ومنع التحدث بلغة المنطقة قدر الإمكان ليتمكن الطفل من ضبط اللغة، ويفضل إلحاق الطفل بالمدارس العربية المتوفرة في المنطقة لدراسة اللغة والمناهج الإسلامية، وعرض بعض القنوات العربية لأفلام الكرتون وترديد الأناشيد والتراثيات العربية والإسلامية وتعليمها للطفل في سن مبكرة.
كذلك يجب ربطه بهموم جماعة الإسلام ومتابعة أخبار وقضايا المسلمين في الدولة التي يعيشون بها، والتضامن مع بعضهم، ومناصرتهم في قضاياهم ومعرفة ما يجري كذلك في دول الشرق الأوسط خاصة فلسطين والدولة الأم، كما يجب على الأسرة أن تحافظ على الزيارات المنتظمة للأقارب وقضاء الإجازات مع العائلة وتعريفهم بأهمية الأسرة والنظام العائلي.
كل هذا ينمي الوعي الذاتي عند النشء بإسلامه وانتمائه، ويسهم في تمرير قيم الإسلام إليه، فيحيا بها ويتمثلها في حياته كلها، ومن ثم تصبح هذه الهجرة العكسية هجرة إلى الله ورسوله أيضًا.