ألمحت سورة «يوسف» ملامح إلى بيئات ومجتمعات مختلفة، بل ومتناقضة؛ فألمحت إلى بيئة البادية بما فيها من رعي وذئاب، وإلى بيئة الحضر بما فيها من بيع وشراء وسادة وعبيد وحكم وقضاء وسجون وزراعة وصناعة.. إلخ، والأسر بما فيها من محبة وحسد وخيانة.. إلخ، ومجتمع النساء في البيئات الحضرية وخصوصًا في علية القوم من السادة والأمراء والملوك وما فيها من ترف وتفسخ ونميمة.. إلخ.
وسنحاول هنا أن نلقي الضوء على بعض الصفات في المجتمع النسوي الذي صورته سورة «يوسف».
غلبة الشهوة
عندما يكون الإنسان في موضع من مواضع السلطة والنفوذ ويرى أن الجميع يخضع لأوامره ويعمل على تحقيقها وتنفيذها، وتكون نفسه ضعيفة، ولا يقدر على ردعها؛ فإنه يتبع هواه، وتكون عنده الرغبة في امتلاك كل شيء، ومن يقف ضد تحقيق رغباته وأهوائه يناله العقاب الشديد.
وقد تحقق ذلك في امرأة العزيز التي كانت سيدة القصر، وكان زوجها لين العريكة لدرجة الضعف.
وسيدة القصر راحت تتصابى، ونسيت أنها في عصمة سيد له مكانته في الدولة، فراحت تحب فتاها الذي اشتراه زوجها، وطلب منها إكرام مثواه، فهي لم تتخلق بأخلاق السادة والأشراف، أو الأمهات لفارق السن بينها وبين فتاها، لكن غلبتها الشهوة الحيوانية وتملكت عليها، وصوَّر القرآن تلك الحالة بقوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) (يوسف: 23).
التجسس
كانت المراودة بين امرأة العزيز وفتاها يوسف، وعند حضور زوجها ادعت الطهر والبراءة، وأن المتعدي عليها هو يوسف الصديق، ثم دلت الأدلة على صدق يوسف، كل هذا كان في القصر.
وهذا الأمر يعتبر سرًّا من الأسرار التي تشوِّه صورة القصر وصاحبه، لكنه خرج من بين تلك الجدران المحروسة المنيعة.
ولا يخرج هذا الأمر إلا عن طريق التجسس والتحسس واستلقاط الأخبار؛ لأن أصحاب هذه الأمور سيكونون أحرص الناس على ألا تتجاوز تلك الأخبار أسوار القصر، لكن اهتمام الناس بأخبار علية القوم يكون مدعاة للتجسس، ويتلقف هذه الأمور النساء أكثر من تلقُّف الرجال لها.
مجالس النميمة
وعندما خرجت الأخبار خارج القصر، كان يمكن لها ألا يأبه لها الناس، وألا يصدقوها، لكن هذه الأخبار تلقفتها نسوة في المدينة، وجعلنها في مجالسهن ومسامرتهن، وأكثرن الخوض فيها؛ قال تعالى: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يوسف: 30).
المكر والكيد
المرأة تعلم أنها ليست في قوة الرجل؛ لذا تستخدم المكر والحيلة والخديعة، وهذا الأمر لاحظه العزيز عندما دخل على امرأته فادعت على الصديق يوسف وأزنَّته بالفاحشة فبرأه الله بالأدلة والشواهد؛ فقال العزيز: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: 28).
ولم يكن قول النسوة: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) من باب الورع والإيمان، وإنما كان قيلهنَّ ما قلن من ذلك، وتحدُّثهن بما تحدَّثن به من شأنها وشأن يوسف، مكرًا منهن، فيما ذكر، لتريَهُنَّ يوسف(1).
الترفه والنعيم
الانشغال بلقمة العيش قد يكون سببًا من أسباب عدم الانشغال بأخبار الناس فضلاً عن تتبُّعها، لكن الغنى والفراغ قد يكونان من أسباب انتشار الغيبة والنميمة.
وهؤلاء النسوة عندما أكثرن من الحديث في قصة حب امرأة العزيز لفتاها بلغها لوك ألسنة النساء لتلك القصة؛ فرأت أن تقابل مكرهن بمكرها؛ لتنظر مدى ثباتهن أمام حُسن الصديق، وكان المدخل لذلك أن دعتهن لمأدبة فاخرة؛ قال تعالى: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) (يوسف: 31).
إطلاق الأبصار وطلب ما طلبته امرأة فرعون من يوسف
بعد تلك الدعوة من امرأة العزيز تحققت رغبتهن في رؤية يوسف، وهذه الرؤية سلبت عقولهن، واستغرقن في رؤيته وذهلن عن أنفسهن حتى بلغ بهن الاستغراق في مشاهدة حسنه إلى تقطيعهن لأيديهن؛ قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف: 31).
وقد دعتهن أنفسهن لمراودة يوسف عن نفسه كما فعلت امرأة العزيز تمامًا بتمام، ويظهر ذلك عندما قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف: 33)، وعندما سألهن الملك قائلاً: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) (يوسف: 51).
عدم الحياء
لم تكتم امرأة العزيز افتتانها بيوسف، بل أعلنت وجاهرت وتبجحت بذلك، ولم تر في ذلك سوءًا أو معرَّة؛ فقد رأت في أعينهن ما كان في عينها من الإعجاب بيوسف، وعرفت ما في نفوسهن من الشهوة، فلما تساوين جميعًا في الشهوة لم تر بأسًا في تأكيد ما تسرَّب عنها من حبها ليوسف فقالت: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) (يوسف: 32).
الاستخدام السيئ للسلطة
فتنة السلطة تجعل صاحبها في بعض الأحيان لا يأبه لمصائر الناس، ويدوس عليهم بحذائه الخشن؛ إذ لا يقبل أن يعارضه أحد، أو يحرمه أحد من رغبته وإن كانت حرامًا، وهذا ما وقعت فيه امرأة العزيز؛ فلم تُطق أن يتمنَّع عليها يوسف وهي التي يخضع لها الكل، ويسمع لها الكل ويطيع، (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف: 32).
فأصدرت حكمها، وقد سارع القضاة في تنفيذ هواها، فخضعت لها السلطة القضائية والسلطة التنفيذية؛ (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف: 42).
السكوت على الظلم
لقد تواطأ الجميع على يوسف، رغم علم الجميع أنه بريء وصدِّيق ومحسن، فأول الظالمين هي امرأة العزيز، وزوجها بعدما رأى الآيات على براءته عمل على سجنه، والنساء اللواتي انشغلن بحب امرأة العزيز لفتاها لم ينشغلن بمصير هذا الرجل البريء؛ فالكل رأى الظلم وسكت عنه.
الخوف من السلطة
لا تبقى الأحوال على ما هي عليه دائمًا، بل تتبدل وتتغير؛ فعندما أراد يوسف أن يثبت براءته وطلب تدخُّل الملك لسؤال تلك النسوة لم يملكن إلا أن يصدعن بالحق ويعترفن ببراءته فقلن: (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف: 51).
فقد رأين أن يوسف أصبح ذا قوة وسلطة، وهو يستمد سلطته من ثقة الملك فيه ورغبته في توليته لبعض المناصب العليا في البلد؛ لذا لم يجرؤن على الاستمرار في ظلمه، وأظهرن الإنصاف له، حتى وإن تُبن مما فعلن وندمن عليه فلم يظهر ذلك إلا بعد تفتيش الملك عن ذلك.
_______________________
(1) تفسير الطبري (16/ 68).