في ضوء صراع مستعر وصل إلى مراحل غير مسبوقة من الاشتباك بين العالمين العربي والإسلامي من ناحية، والكيان الصهيوني من ناحية أخرى، يتعين توظيف كافة الأسلحة في ساحات المعارك، ليست فقط تلك الساحات التي تستعين بالرصاص والنار، وإنما تستدعي المعركة نزالاً مكثفاً في ساحة النزاع الفكري والثقافي والمعرفي، خاصة في ظل رؤى تنظيرية متنامية تردد بقوة اجتهادات فكرية حول نهاية «إسرائيل» وانهيار المنظومة الأخلاقية والحضارية الغربية أمام اختبار غزة الحاسم، وافتضاح وتهاوي كثير من المؤسسات والحكومات المدعية الذين كشفوا عن الوجه الغربي القبيح للعنصرية الإمبريالية التي لا تلقي بالاً للمبادئ والقوانين والأعراف إذا ما كان الطرف الآخر من خارج الانتماءات العرقية المذهبية الضيقة لواضعي تلك القوانين، التي وُضعت بشكل رئيس لخدمة القوي ولتكريس مصالحه لا أكثر.
الصهيونية.. النشأة والمآل
يشير د. عبدالوهاب المسيري، في موسوعته الشهيرة «اليهود واليهودية والصهيونية» إلى استخدام الخطاب السياسي العربي لكلمة المشروع الصهيوني كتعبير عن المخطط الصهيوني لاحتلال فلسطين وطرد أهلها والهيمنة عليهم، وفي أحيان أخرى باعتباره مؤامرة يهودية لا تنتهي، وقد انطلقت فكرة إقامة كيان بطابع يهودي أولاً ثم تحول فيما بعد إلى صهيوني، وعبر عدد من قادة أوروبا عن قبولهم للفكرة في وقت مبكر، وأبرزهم نابليون عام 1799م، ثم بالمرستون، رئيس وزراء بريطانيا، عام 1837م، وهو ما مهد لقيام الحركة الصهيونية بتشجيع بريطاني تكلل بإصدار «وعد بلفور» عام 1917م.
الأزمة البنيوية للمشروع الصهيوني هي نتيجة قيامه على تمييز وفصل عنصري لا يمكن استمراره
وبذلك تقوم الفكرة الصهيونية على 3 أقسام رئيسة طبقاً للمسيري، كالتالي:
1- إقامة «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات كهدف إستراتيجي يتم تنفيذه على مراحل.
2- تنفيذ ذلك المشروع بالحرب العدوانية التوسعية الاستيطانية وإقصاء سكان المنطقة إلى الخارج وتوطين اليهود بدلاً منهم بالإكراه.
3- عدم وضع دستور تقليدي للدولة لتفادي وضع حدود واضحة حاسمة بغرض استمرار العمل على توسيع نطاقها لتحقيق مشروع «إسرائيل الكبرى».
وتظهر الأزمة البنيوية للدولة الوليدة للمشروع الصهيوني نتيجة قيامها على تمييز وفصل عنصري حاسم لا يمكن استمراره واستقراره نتيجة صراع مسلح دائم بين سكان الأرض الأصليين والمستوطنين المفروضين من الخارج، بالإضافة إلى الفكرة التوسعية التي باتت في ظل النظام العالمي الحالي غير واقعية، في ظل استقرار كافة حدود الدول المحيطة؛ وهو ما يعني مأزقاً صهيونياً يمكن استغلاله عبر الفضح المتجدد للمشروع الصهيوني، وما ينطوي عليه على أفكار وخطط شديدة التطرف ومعادية لكافة القوانين والأعراف الدولية.
الصهيونية.. بين النازية والإمبريالية
رغم المحاولات الصهيونية الدعائية لتصوير الصهيونية كرد فعل اتخذه اليهود من أجل الدفاع عن أنفسهم في مواجهة ما لاقوه من اضطهاد في أوروبا بشكل عام، وألمانيا النازية بشكل خاص، ومن ثم الترويج للصهيونية كدفاع يهودي عن النفس وتحرر يهودي من الظلم والاضطهاد، فإن المقارنة والمقابلة بين الصهيونية على صعيدي الفكر والممارسة تُظهر بجلاء التماثل حد التطابق بين الصهيونية والنازية، سواء من حيث نفي الآخر أو انتهاج القوة باعتبارها القيمة الأهم، والادعاء بالتفوق على أساس ديني عرقي، ومن ثم تنبع القيم والمعايير الأخلاقية من الداخل الصهيوني دونما اعتبار لأي قيم أو أعراف خارجية حتى لو كانت محل إجماع من كافة الأمم الأخرى طالما تلك الأمم ليست صهيونية.
من ناحية ثانية، يجدر فهم المشروع الصهيوني الاستيطاني في سياق المشروع الإمبريالي الغربي الذي تطور وتوسع في كنفه وتحت رعايته منذ القرن التاسع عشر، وهو مشروع يستهدف من ناحية التخلص من اليهود الذين لم يتمكنوا من الاندماج بشكل كامل في المجتمعات الأوروبية؛ مما تسبب في نزاعات وصراعات اجتماعية وتنامي الرفض الشعبي للجماعات اليهودية.
ومن ناحية ثانية، توظيف تلك الجماعات لمصلحة خدمة المشروع الإمبريالي في العالم، عبر تكريس وجود الغرب من خلال ممثل دائم بمثابة سفير لكنه ليس سفيراً دبلوماسياً إنما «شرطي» يحمل هراوة الغرب في وجه العرب والمسلمين، ويضمن بشكل دائم الحفاظ على مصالح الغرب في الإبقاء على التفوق الغربي في مواجهة تكريس تخلف العالم العربي والإسلامي عبر إغراقه الدائم في الصراعات والنزاعات المذهبية والدينية وإثارة الفرقة والتشتت في سائر جنبات ذلك العالم.
على النخبة الإسلامية نقد الصهيونية باعتبارها تهديداً فكرياً وجودياً للإنسانية والأخلاق والقيم
وهو ما يظهر جلياً اليوم عبر تقسيم العالم الإسلامي إلى معسكرين؛ أحدها متحالف مع «إسرائيل»، والآخر معادٍ لها، وهو الخلاف الذي يتم توظيفه يوماً بعد يوم لتكريس العداء السُّني الشيعي بعدما قدم الشيعة أنفسهم كمحور مقاوم لـ«إسرائيل» في مواجهة تصدير المحور السُّني كمتحالف وداعم لـ«إسرائيل».
في ساحة الوعي
تفرض المعركة الحالية على نخبة العالمين العربي والإسلامي أن تنزع إلى أخذ زمام المبادرة في التوعية العالمية بالصهيونية، لا من حيث انتهاج النقد التقليدي القائم على المذهبية عبر ثنائية «الإسلام – اليهود» أو «الشرق – الغرب»، وإنما عبر نهج متجدد لتوسيع أفق نقد الصهيونية باعتبارها تهديداً فكرياً وجودياً للإنسانية والأخلاق والقيم والمبادئ، باستخدام عدد من الإستراتيجيات التي تحاول الانفتاح على النقد اليهودي الداخلي للصهيونية، والتشبيك مع نشطاء يهود الشتات الذين يعارضون الصهيونية، إذ إن تأسيس العداء الإسلامي للصهيونية عبر مرادفتها باليهودية يحصر الصراع في دائرة الدين، وهو ما يكرس المصلحة «الإسرائيلية» التي تسعى إلى تصوير نفسها كدولة يهودية مضطهدة بين مجموعة كبيرة من المسلمين المتطرفين.
من ناحية أخرى، فإن تسليط الضوء على الصهيونية في سياقها المعرفي الأوسع وإبراز ولادة تلك الأيديولوجية في إطار الغرب الإمبريالي وتوظيفها لدعم استمرار الهيمنة الغربية على العالم العربي والإسلامي، يعيد فهم تلك الأيديولوجية المتطرفة وارتباطاتها الوثيقة بالغرب على أساس قومي إمبريالي؛ ومن ثم تجريدها من ادعاءاتها الدينية التي تستخدمها للتعبئة وإثارة العواطف، ويرسخ الفهم للعلاقة «الإسرائيلية» الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص، إذ تخدم تلك الدولة الاستيطانية مصالح سياسية واقتصادية بالوكالة ومن ثم فهم التحيزات الفاضحة والفاحشة لكثير من الدول الغربية لذلك الكيان الاستيطاني والتعاطي معها بوعي وإدراك.
وقد منح الصراع الدائر الآن فرصة مهمة للمثقفين العرب نظراً لما تشهده الساحة الداخلية للكيان الصهيوني من صراعات سياسية وفكرية تعصف بالتوازن الداخلي والاستقرار الهش الذي يقوم عليه المجتمع «الإسرائيلي»، وهو ما يجدر توظيفه فكرياً عبر تسليط الضوء على المشروع الصهيوني وانحرافاته ومثالبه وما ينطوي عليه من قيم لا إنسانية غير قابلة للاستمرار.
وأخيراً، فإن سلاح الفكر لا يقل أهمية عن سلاح القوة العسكرية في هزيمة العدو، ودراسة الآخر لفهم دوافعه وقيمه ومنطلقاته وخلفياته المعرفية أمر ضروري لإدارة صراع قائم على الوعي والندية والفعالية، بعيداً عن الشعارات الشعبوية التي تخدم الآخر أكثر مما تخدم القضية.