ظواهر أخلاقية عديدة مستحدثة ومستغربة استطاعت أن تقتحم مجتمعاتنا العربية والإسلامية حتى كادت أن تكون ظواهر لصيقة بالمجتمع وجزءاً منه، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الرجل والمرأة والعلاقات الاجتماعية وحجاب المرأة وتسترها.
ومن السور التي اهتمت بالمسائل الاجتماعية وتنظيم تلك العلاقات حفاظاً على طهر المجتمع المسلم وتخلقه بجملة من الأخلاق والآداب المفروضة تكريماً له وحفاظاً عليه سورة «النور» التي يقول الله عز وجل في مطلعها: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النور: 1).
وفرضية كل آيات القرآن لا شك فيها، ونزول كل آيات القرآن كذلك من عند الله أمر بديهي، لكن تأكيد الفرضية والتنزيل من الله تعالى يلفت نظر المسلم لما بها من أحكام أدبية وأخلاقية غير متروكة لاجتهاد البشر أو لأهوائهم، يقول سيد قطب في «ظلاله»: «هذه سورة النور، يذكر فيها النور بلفظه متصلاً بذات الله: الله نور السماوات والأرض ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة، وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية، تنير القلب، وتنير الحياة؛ ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح، وإشراق في القلوب، وشفافية في الضمائر، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير»(1).
والبعض قد يتهاون في المسائل الأخلاقية ظناً منه أنها فضائل يتحلى بها إن أراد ويتهرب منها حين يريد طالما أن الأمر لا يتعلق بالعبادات، والسورة لم تتناول مثل هذه العبادات والفرائض والأركان، وإنما تناولت الجانب الأخلاقي(2).
أولاً: ما يتعلق بجريمة الزنى:
يستهل الله عز وجل تلك السورة بمسألة خطيرة تمس المجتمع وفعل تنفر منه كل نفس عفيفة يقول تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2)، وإثبات جريمة الزنى على مسلم أو مسلم ليس بالأمر اليسير، ولم تتركه الشريعة لهوى البعض دون عقاب وردع فيخوض في أعراض المسلمين دون بينة وإشهاد الشهود وإلا فالعاقبة قد تكون مروعة فردياً بوجوب إقامة الحد على من ادعى، ومجتمعياً بوقوع الفتن واستباحة الأعراض.
فحفظ المجتمع ليس من الفعل وحده، وإنما من مجرد الخوض والجرأة فيه، واستباحة الحديث عنه فيصير تكرار اللفظ عادياً بين أفراد المجتمع المسلم الذي يجب أن يكون عفيفاً.
وكي يقع لفظ الزنى على مسلم أو مسلمة له شروط وبينات يجب أن يقدمها المدعي كي لا يقع تحت طائلة الحدود، وهي وجود أربعة شهود، ومن يفكر في الأمر يجد صعوبة تحقيق إقامة ذلك الشرط، وإلا فهو جرأة من الطرفين على إتيان الفاحشة على قارعة الطريق أو في مكان عام، وهم بذلك يتحولون لخطر داهم على المجتمع النظيف، وقد وجب إقامة الحد عليهم حفاظاً على القيم الشرعية، وفي ذلك يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 4)، يقول عليه الصلاة والسلام: «.. وَإِنَّ قَذْفَ مُحْصَنَةٍ لَيَهْدِمُ عَمَلَ مَائَةِ سَنَةٍ»(3).
الأمر في الإسلام إذن هو الستر وليس الفضح، فعند رؤية الجريمة من ثلاثة شهود، فقد وجب عليهم الستر والصمت وإلا يقام عليهم حد الخوض.
ثانياً: ما يتعلق بوسائل الحماية المجتمعية من الوقوع في الزنى:
الوقوع في الزنى له مقدمات ومداخل يلبسها الشيطان على المسلم فيحذر الله تعالى قائلاً: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الإسراء: 32).
وأول مقدمات الزنى النظرة، فحرم الله عز وجل إطالة النظر وتعمده بغير ضرورة وجعله ملازماً لحفظ الفرج فقال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور: 30).
وأمر سبحانه المسلمة بالحجاب وجعله فريضة على كل مسلمة بالغة فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) (الأحزاب:59).
ثالثاً: آداب يجب أن يتحلى بها المسلم:
ودرءاً لكل مفسدة، وقطعاً لطريق السقوط الأخلاقي، وضع الله عز وجل مجموعة من التشريعات والآداب التي يجب تربية النشء عليها وتطبيع خلق المسلم بها، وهي آداب الاستئذان داخل المجتمع بين الناس، وآداب للاستئذان داخل إطار الأسرة الواحدة؛ قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {27} فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {28} لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (النور).
ففي الجاهلية كان الرجل يدفع الباب ويدخل على القوم دون استئذان فتصطدم عينه كثيراً بمشاهد النساء دون استعداد، وربما يكون رجل البيت ليس موجودًا، وتلك فوضى أخلاقية لا تليق بدين العفاف؛ فأوجب الله عز وجل الاستئذان قبل الدخول حتى لا تقع عينه على عورة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فليرجع»، روى أبو داود عن رِبْعيٍّ قال: حدثنا رجلٌ من بني عامر رضي الله عنه أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أَلِجُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلِّمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟»، فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل.
هذا فيما يخص الاستئذان العام، وأما فيما يخص داخل الأسرة فقد وجه الشارع آداب التربية حتى يشب الأطفال على تلك الآداب ولا تقع أعينهم على ما يثير تساؤلاتهم أو ينال من حيائهم، روى البخاري في الأدب المفرد عن عطاء قال: سألتُ ابن عباس، فقلت: أستأذنُ على أختي؟ فقال: نعم، فأعدت، فقلت: أختانِ في حِجْري، وأنا أُمَوِّنُهما، وأُنفِق عليهما، أستأذن عليهما؟ قال: نعم، أتحب أن تراهما عريانتينِ؟! ثم قرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النور: 58)، قال: فلم يُؤمَر هؤلاء بالإذن إلا في هذه العَوْرات الثلاثِ، قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النور: 59)، قال ابن عباس: فالإذن واجبٌ على الناس كلهم، فما أعظم هذا الدين وما أطهره وما أعظم آياته وما أروع حياتنا إن نحن تأدبنا بأدبه!
_______________________
(1) في ظلال القرآن ج 4، ص 2484.
(2) في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب رحمه الله (بتصرف).
(3) الحاكم في المستدرك والبزار في مسنده والطبراني في الكبير.