السماحة في الإسلام من القيم الأساسية التي تدعو إلى التعامل برفق ولطف مع الآخرين، بغض النظر عن معتقداتهم، أو خلفياتهم، وتعكس هذه القيمة الروح العامة للشريعة الإسلامية التي تهدف إلى تحقيق التعايش السلمي والعدل بين الناس.
ويمكن القول: إن السماحة بذل ما لا يجب تفضلًا، ويكون ذلك بتيسير الأمور، والملاينة فيها، التي تتجلى في التيسير، وعدم القهر، وكذلك حسن البِشر عند السؤال، قال اللَّه تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، قال السعدي: «ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم».
وقال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 280)، ففي هذه الآيةِ وجه الله الدائنين إلى التيسير على المدينين المعسرين، فعلمهم الله بذلك سماحة النفس، وحسن التغاضي عن المعسرين.
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»، قال ابن بطّال: فيه الحض على السماحة، وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة في البيع، وحث النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الرفق في التعامل مع الناس، حيث قال: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله».
ومن صور ومظاهر السماحة:
أولًا: السماحة في التعامل مع الآخرين: ويكون ذلك بعدم التشديد، وعدم الغلظة في التعامل مع الآخرين، حتى ولو كان خادمًا؛ فعن أنس قال: خدمت النبي، صلى الله عليه وسلم، عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لمَ صنعت؟ ولا: ألا صنعت.
ثانيًا: السماحة في البيع والشراء: بألّا يكون البائع مغاليًا في الربح، ومُكثرًا في المساومة، بل عليه أن يكون كريم النفس، وبالمقابل على المشتري، أيضًا، أن يتساهل، وأن يكون كريمًا مع البائع، وخاصة إذا كان فقيرًا.
ثالثًا: السماحة في قضاء الحوائج: فإن الذي يقضي حوائج الناس، فينفّس كربتهم، وييسر على معسرهم، ييسر الله عنه في الدنيا والآخرة؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من نفَّس عن مسلم كُربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على مُعسر في الدنيا يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
رابعًا: السماحة في الاقتضاء: قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 280)، قال السعدي: وإن كان المدين ذا عسرة لا يجد وفاءً، فنظرة إلى ميسرة، وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون إما بإسقاطها أو بعضها.
خامسًا: السماحة في العطاء: فقد كتب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله كتابًا، لمّا ولاه المأمون الرقة، ومصر، وما بينهما، وفيه: وإذا أعطيت فأعط بسماحة، وطيب نفس، والتمس الصنيعة، والأجر غير مكدر، ولا منّان؛ فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله.
سادسًا: التعامل مع غير المسلمين: فالإسلام يدعو إلى التعامل بالمعروف مع أهل الكتاب، وغير المسلمين، بشرط أن يكونوا مسالمين، وقد أثنى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الاتفاقيات والمعاهدات التي تحترم حقوق الآخرين، وتضمن السلام.
سابعًا: المشاركة في الأعمال الخيرية: يساعد الكثير من المسلمين في دعم الأعمال الخيرية التي تستهدف جميع الناس، بغض النظر عن خلفياتهم، أو معتقداتهم، مما يعكس روح السماحة، والإحسان.
ثامنًا: التعايش السلمي: في المجتمعات المتنوعة ثقافيًا ودينيًا، يسهم المسلمون المتسامحون في تعزيز التعايش السلمي من خلال الانخراط في حوارات بين الأديان، والمشاركة في الأنشطة المجتمعية، من أجل تعريف الآخرين بمبادئ الإسلام.
تاسعًا: التسامح في البيئات العملية: ففي مكان العمل، يمكن أن يظهر التسامح من خلال فهم ظروف الآخرين، وتقديم الدعم للزملاء الذين يواجهون صعوبات، والتعامل مع الأخطاء بشكل بنّاء.
ومن الوسائل المعينة على اكتساب السماحة:
أولًا: التأمل في النصوص الدينية: قراءة وفهم الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي تحثّ على السماحة، والتفكر في القصص التي تُجسد هذه القيمة في حياة الأنبياء والصالحين.
ثانيًا: التربية والتنشئة الحسنة: التربية على قيم التسامح، واللطف منذ الصغر، حيث يلعب الوالدان دورًا كبيرًا في تعليم أبنائهم كيفية التعامل مع الآخرين برفق واحترام.
ثالثًا: الممارسة العملية: من خلال تعويد النفس على التسامح في المواقف اليومية، مثل العفو عن الآخرين، وتجنب الرد على الإساءة بالإساءة، والاستماع الجيد لآراء الآخرين مهما اختلفت معها.
رابعًا: التفكر في آثار التسامح: التفكر في الفوائد التي تعود على الشخص المتسامح، والمجتمع ككل، حيث يساهم التسامح في بناء علاقات قوية، ومجتمع متماسك.
خامسًا: التعلم من التجارب السابقة: الاستفادة من التجارب الحياتية التي مرّ بها الفرد، أو مر بها الآخرون، والتي تظهر كيف أن التسامح قد أدى إلى نتائج إيجابية.
سادسًا: التدريب على التحكم في النفس: ممارسة التقنيات التي تساعد على ضبط النفس، والسيطرة على الغضب، مثل التنفس العميق، أو العد إلى رقم معين قبل الرد في المواقف الصعبة.
سابعًا: القراءة والاستزادة بالمعرفة: الاطلاع على الكتب والمقالات التي تتحدث عن أهمية التسامح، وكيفية تطبيقه في الحياة اليومية.
ثامنًا: المشاركة في الأنشطة الاجتماعية: الانخراط في الأعمال التطوعية والأنشطة الاجتماعية التي تجمع بين مختلف الفئات الاجتماعية، مما يساعد على فهم الآخرين، وتقدير اختلافاتهم.
تاسعًا: المحافظة على الصداقات والعلاقات الإيجابية: من خلال التواصل مع الأشخاص الذين يتحلون بصفات التسامح، والرفق، حيث يمكن أن يكون لهم تأثير إيجابي على سلوك الفرد.
عاشرًا: الاستعانة بالله: التوجه إلى الله بالدعاء والاستعانة به في كل الأحوال، سائلين إياه أن يمنحنا الصبر، والقدرة على التسامح مع الآخرين.
باتباع هذه الوسائل وغيرها، يمكن للفرد أن يطوّر من سماحته ويكتسبها، مما ينعكس بشكل إيجابي على حياته الشخصية والاجتماعية.
وعلى ذلك يمكن القول: إن السماحة في الإسلام ليست مجرد مفهوم نظري فحسب، بل هي ممارسة عملية تؤثر بشكل إيجابي على حياة الفرد، والمجتمع، وتسهم في بناء جسور التواصل والمحبة بين الناس.