ظلت مدارس القرآن الكريم في اليمن على مر العصور منارات للعلم والإيمان، تجسد العناية والاهتمام بتعلم وتدريس كتاب الله.
وانطلقت هذه المدارس من التزام أهل اليمن بتعليم القرآن وحفظه منذ دخول الإسلام إلى البلاد، واستمرت في تطورها حتى زمن الدولة الأيوبية التي قدمت الإشراف المباشر والتأسيس الرسمي لهذه المدارس، التي لم يمنع تأخر تأسيسها مقارنة بالدول الإسلامية الأخرى أهل اليمن من تعزيز اهتمامهم بالعلم القرآني والعمل به.
لكن الوضع اليوم يختلف تماماً؛ فمع سيطرة الجماعة الحوثية على أجزاء كبيرة من البلاد، تعرضت المدارس القرآنية لموجة من الاستهداف والتغيير الجذري، حيث سعت الجماعة إلى تحويلها من مراكز تعليمية دينية إلى أدوات لدعم أجنداتهم السياسية والطائفية، وفرضت سيطرتها على هذه المدارس، وألغت الميزانيات المخصصة لها، واستولت على مبانيها، واعتقلت العديد من معلميها.
وفي خضم هذا الوضع المتردي، تم إغلاق العديد من المدارس القرآنية وتحويلها إلى محاضن طائفية، وفرض مناهج تعليمية جديدة تتماشى مع أفكار الحوثيين، ولم يقتصر هذا التغيير الجذري على الإغلاق فحسب، بل امتد إلى تقليص عدد الطلاب وتأثير التعليم القرآني في المجتمع اليمني بشكل كبير.
ومع ذلك، لا تزال هناك جهود من قبل بعض الشخصيات والمجتمعات المحلية للحفاظ على التعليم القرآني، حيث قام البعض بفتح مدارس خاصة بجهود تطوعية، ولكن هذه المبادرات تواجه تحديات كبيرة نظراً للرقابة والتهديدات الحوثية المستمرة.
نشأة مدارس القرآن في اليمن
أثبتت الدراسات البحثية أن اليمن عرف المدارس القرآنية قبل العصر الأيوبي (569 – 626هـ/ 1173 – 1229م)، إلا أن الإشراف المباشر من خلال الإنفاق المالي عليها، واختيار مناهج التعليم لم يعرف إلا في ظل سيادة الدولة الأيوبية التي لها السبق في ذلك.
ففي الوقت التي تزين فيه القرن الخامس الهجري بافتتاح المدارس القرآنية في كل من العراق والمشرق الإسلامي، انتظرت الساحة اليمنية القرن السادس حتى يزف بشراه ويحمل لليمنيين أخبار التجسيد العملي والمؤسسي للمدارس بسواعد أمراء الدولة الأيوبية.
وإن كان وضع حجر أساس المدارس القرآنية بشكلها النظامي في اليمن قد تأخر حتى القرن السادس تقريبًا إبان حكم الدولة الأيوبية عطفًا على نظيراتها من حواضر الدول الإسلامية كمكة والمدينة والعراق؛ إلا أن عقول أهل اليمن في هذه الفترة كانت تتجه صوب التأهيل العلمي والبناء المعرفي والذهني للوصول بعقلية حفاظ اليمن إلى الاكتفاء الذاتي، فقد هاجرت تلك العقول إطار الركود والجمود إلى إطار النهم والتزود العلمي في طلب العلم وخاصة لاكتساب علوم القرآن.
وبفضل هذه الهجرات العلمية رسخ أهل اليمن أقدامهم في هذا العلم، وشقوا طريق بناء الهوية القرآنية بالرغم من تيه بقية ملفات الحياة في غياهب عدم الاستقرار السياسي.
واستمر مسلسل بناء المدارس وتشييد القلاع القرآنية، فبعد أن وضعت الدولة الأيوبية أساس هذا المظهر العلمي الجمالي من مظاهر التحضر المدني اليمني، وبعد أن خفت بريقها السياسي وغابت عن المشهد الإداري والقيادي، فتسلمت راية السياسة من بعدها الدولة الرسولية فسار ملوك هذه الدولة على ذات النهج العلمي، فاستمروا بإنشاء مدارس البناء القرآني حتى صار ذلك تقليدًا ملكيًا، فكل من تسلم زمام الأمور وتربع على عرش السلطة أسهم في التوسع القاعدي المدرسي، بل لم يقتصر ذلك الفكر على من يحمل صولجان القيادة فقد انتقل ذلك الفكر حتى صار تقليدًا شعبيًا ومظهرًا بارزًا من مظاهر حضارتهم.
واقع المدارس القرآنية اليوم
ولكن اليوم، تواجه هذه المدارس القرآنية في اليمن تحديات كبيرة في ظل الوضع الراهن الذي تهيمن عليه الجماعة الحوثية، حيث سعت هذه الجماعات إلى استغلال المدارس القرآنية وتحويلها إلى أدوات لدعم أجندتها السياسية والطائفية، مما أثر بشكل كبير على دورها التاريخي والعلمي في المجتمع.
وأصبحت المدارس القرآنية، التي كانت تمثل سابقًا مركزًا مهماً لحفظ وتعليم القرآن الكريم، هدفًا للحوثيين، فقاموا بإلغاء الميزانيات المخصصة لهذه المدارس، واستولوا على مبانيها، واعتقلوا العديد من معلميها وحفظتها، بحجة أنهم يروجون لأفكار تتعارض مع ما يطلقون عليه «القرآن الناطق»، وأدى هذا الهجوم المنهجي إلى تقليص عدد الطلاب المنتسبين لتلك المدارس، وتأثيرها الإيجابي في المجتمع اليمني.
ولم يقتصر التغيير في توجهات التعليم القرآني تحت سيطرة الحوثيين على إغلاق المدارس فحسب، بل امتد إلى تحويل المناهج الدراسية لتتماشى مع أفكارهم الطائفية، حيث ألغت الجماعة الشهادة الثانوية التكميلية التي كانت تمنح لخريجي المدارس القرآنية، كما أقدمت الوزارة الحوثية على حذف مواد الفقه والحديث والسيرة النبوية من المناهج الدراسية؛ مما أدى إلى تقليص الدور التربوي والتعليمي لهذه المدارس بشكل ملحوظ.
ولم يكن إغلاق المدارس القرآنية مجرد إجراء إداري، بل كان له تأثيرات عميقة على الطلاب والعائلات، حيث أُغلِقَت العديد من المدارس وتعرضت للتفجير، كما اعتُقِلَ معلموها وتعرضوا للتشويه والتهديد، وأدت التغيرات في المناهج الدراسية، إضافة إلى الاعتقالات والاضطهاد إلى عزوف الكثير من الأسر عن إرسال أبنائها إلى المدارس القرآنية، خوفًا من التهديدات والتعرض للملاحقة من قبل الحوثيين.
ويمكن تلخيص مظاهر استهداف الحوثيين للمدارس القرآنية ومراكز تحفيظ القرآن في اليمن في التالي:
1- شنت الجماعة حملات اقتحام على مراكز العلوم الشرعية ودور تحفيظ القرآن في عدة محافظات، منها إب والبيضاء وصنعاء، استهدفت خلالها عدة مراكز، أبرزها مركزا «دار الحديث» و«التوحيد» في محافظة إب، حيث تم طرد الطلاب والعاملين وإغلاق المراكز.
2- حاولت الجماعة إجبار القائمين على مراكز تحفيظ القرآن على تدريس «الملازم» ذات الطابع الطائفي بدلاً من القرآن الكريم، وهو ما قوبل بالرفض من قبل هذه المراكز، وكان نتيجته أن استخدم الحوثيون التهديدات والإجراءات القسرية للسيطرة على هذه المراكز وتحويلها إلى أدوات للتعبئة الطائفية.
3- خلال الحملات الحوثية، تم اختطاف العديد من الطلاب والقائمين على إدارة مراكز تحفيظ القرآن، مثلما حدث في مركز «الخير» بمحافظة البيضاء، حيث تم اختطاف الطلبة والعبث بمحتويات المركز، كما أغلقت مراكز نسائية لتحفيظ القرآن في مناطق مثل ضبوة، وطردت الطالبات بعد نهب محتويات المركز.
4- تسببت هذه الاعتداءات في ردود فعل قوية من قبل علماء الدين ووجهاء المجتمع في المناطق المستهدفة، ففي محافظة إب، أصدر العلماء ووجهاء المنطقة وثيقة تندد بالممارسات الحوثية، مطالبين بوقف الهجمات والاعتداءات ضد مراكز تحفيظ القرآن.
5- الحوثيون لم يقتصروا على الإغلاق والاعتقالات فحسب، بل قاموا أيضاً بتحويل بعض المراكز إلى محاضن طائفية لتجنيد الطلاب وتعليمهم أفكاراً طائفية، كما تم تنظيم دورات تعبويّة مكثفة تستهدف السكان والمسؤولين المحليين، مع إنفاق مبالغ كبيرة على هذه الأنشطة.
6- أدى الإغلاق المستمر لمراكز تحفيظ القرآن إلى تقليص كبير في عدد الطلاب المتعلمين للقرآن الكريم، وأدى إلى تدهور جودة التعليم القرآني في المناطق المتأثرة، وأصبحت العديد من الأسر تخشى إرسال أبنائها إلى هذه المراكز، مما أثر سلباً على انتشار حفظ القرآن في المجتمع.
جهود حماية التعليم القرآني
وعلى الرغم من هذه التحديات، تواصل بعض الشخصيات والمجتمعات المحلية جهودها لحماية التعليم القرآني، فقد قامت بعض الأسر بفتح مدارس خاصة بجهود تطوعية، ولكن هذه المبادرات تواجه صعوبات كبيرة بسبب الرقابة والتهديدات، حيث تشير تقارير إلى أن الحوثيين مستمرون في محاولة فرض مناهجهم الطائفية بدلاً من القرآن الكريم.
وكشفت التقارير الحقوقية أن الحوثيين حتى العام 2017م فقط اختطفوا أكثر من 300 حافظ للقرآن الكريم، وأغلقوا 250 مدرسة لتعليم القرآن الكريم، بعدة مناطق تحت سيطرتهم، بما في ذلك العاصمة صنعاء، محافظة ذمار، محافظة صعدة، حجة، الحديدة، إب، وعمران.
وتشير الإحصاءات الرسمية لوزارة التربية اليمنية أنه إبان الحرب الأهلية في اليمن وقبل سيطرة الحوثيين على أجزاء كبيرة من البلاد، كان هناك أكثر من 500 مدرسة قرآنية منتشرة في مختلف المحافظات اليمنية، تضم أكثر من 70 ألف طالب وطالبة، وأسفرت عن تخريج 2284 حافظًا وحافظة للقرآن الكريم.
ويبقى أن المدارس القرآنية في اليمن تواجه أزمة خانقة تحت وطأة الهيمنة الحوثية، التي تسعى إلى تحويلها من مراكز تعليم ديني إلى أدوات طائفية وسياسية، وهو ما يستدعي تدخلاً عاجلاً لدعم هذه المدارس والحفاظ على دورها التاريخي والإيجابي في تربية الأجيال وتعليمهم القرآن الكريم.