هذا العنوان مقتبس من حديث صحيح قال فيه صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذَوي الهيئاتِ عثَراتِهم»؛ أي: اعفوا عنِ الزَّلَّاتِ التي تَصدُرُ ممن كان مَعْروفًا بين الناسِ بالفَضْلِ والخَيْرِ؛ حتى لا يذْهَبَ خيْرُهُم في الناسِ، وحتى لا تَنْعدِمَ قُدْوتُهُم بين الناسِ.
وكذلك الحال بالنسبة لذوي العطاء والمسؤولية العامة والقدوات، الذين يعم نفعهم للآخرين، فإنهم قد تعتريهم بعض الصفات السلبية، ومن أبرزها حدة في الطباع لأسباب عديدة، فينبغي التجاوز عنهم حال ظهور حدتهم للاستفادة من الخير الذي معهم.
فالطبيعة البشرية تقتضي النقص في الجملة، وكما قال الشاعر:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى بالمرء نُبلاً أن تُعدّ معايبه
ويذكر لنا التاريخ نماذج من ذوي الطباع الحادة مثل الإمام ابن حزم رحمه الله حيث ترجم له الإمام الذهبي قائلًا: «وصنَّف في ذلك –يعني نفي القياس- كتبًا كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجَّج العبارة، وسبَّ وجدَّع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها، ونفروا منها، وأُحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقادًا واستفادة، وأخذًا ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجًا في الرصف بالخرز المهين.. وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار».
فهذا التحليل العميق من الإمام الذهبي لشخصية ابن حزم يعطينا منهجاً في التعامل مع ذوي العلم والعطاء إذا انتابهم شيء من حدة الطبع لا سيما إذا كان هناك أسباب موضوعية لتلك الحدة، كما ورد عن ابن حزم أنه ذكر هو عن نفسه أنه أصيب بمرض في الطحال فولّد عليه ذلك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنَزَق، حتى إنّه نفسه أنكر تبدّل خُلقه.
ومن عجيب ما جاء عن السلف الصالح في هذا الموضوع وصية أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما، كما وردت في كتب السير والمغازي، قال فيها: واستوص بمن معك من الأنصار خيراً في حسن صحبتهم، ولين القول لهم، فإن فيهم ضيقاً ومرارة وزعارة، ولهم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فهذه الصفة التي عَلِمها الصديق رضي الله عنه عن الأنصار وأخبر بها خالداً بن الوليد رضي الله عنه، وأن فيهم ضيقاً ومرارة وزعارّة، والزَّعَارَّةُ -بتشديد الراء- كما جاء في كتب المعاجم شراسة الخلق، وهذه كلها علامات لحدة الطبع، لم تمنع من الإحسان إليهم والتجاوز عن إساءتهم والإفادة منهم ومشاركتهم في الجهاد.
ويتأكد من ذلك كله أهمية الحرص على استثمار كافة الجهود من ذوي العلم والفضل والعطاء ولو كان فيهم حدة طبع أو شدة في الأخلاق قد تصرف الآخرين عنهم، لا سيما المتعلم مع أستاذه، كما أشار إلى ذلك ابن جماعة في كتابه القيم «تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم» بقوله موصيًا طالب العلم: «أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته.. ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه ويجعل العَتْبَ عليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه وأحفظ لقلبه وأنفع للطالب في دنياه وآخرته».
وعن بعض السلف: من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة.
ولبعضهم:
واصبر لجهلك إن جفوت معلمًا اصبر لدائك إن جفوت طبيبه
وقال الشافعي رضي الله عنه: قيل لسفيان بن عيينة: إن قومًا يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا أو يتركوك، فقال للقائل: هم حمقى إذًا مثلك إن تركوا ما ينفعهم لسوء خلقي.
وقال أبو يوسف رحمه الله: خمسة يجب على الإنسان مُدَاراتهم، وعد منهم العالم ليقتبس من علمه.
وهكذا هي الحياة ندور فيها بين عالم ومتعلم، فلنحرص على استدامة الانتفاع والتعلم، ولنتجاوز عن صوارف التعلم والاستفادة حتى نفوز بالنجاح في الدارين.