لقد منح الله تعالى الإنسان كل مقومات الكمال والتقدم، ليكون انعكاسًا لعظمة خالقه، وليؤدي دوره كخليفة على الأرض ومسؤول عن إعمارها، فقد وهبه القدرة على الإدراك والتفكير، ليتعرف على أنظمة الكون وقوانين الوجود، ويستكشف كنوز الطبيعة وإمكانات الحركة والفعل، وسخر له الأرض ومكنه من استغلال مواردها، وفتح أمامه آفاق السماء، وأخضع له الكون بما فيه، وزوّده بلياقة جسدية مذهلة تجمع بين قدرات الحواس والأعضاء وبين جمال الشكل وبديع التصميم.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التميز الإنساني في قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، فلو كانت هناك مواصفات أرقى أو مقومات أعلى لما ادخرها الله تعالى لمخلوق آخر غير الإنسان، فهو أرقى تعبير عن عظمة الخالق وقدرته.
وتكمن مشكلة الإنسان في غفلته عن مقومات كماله، وإهماله لنقاط قوة وجوده، مما يفقده التمتع بميزات موقعيته العالية الرفيعة، وينحدر به إلى قاع الضعف والهوان، ليصبح مصداقًا لقوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، (التين: 5).
وبين الارتقاء إلى مستوى أحسن تقويم والانحدار إلى أسفل سافلين، يقع مضمار سباق ومعترك صراع، تتفاوت فيه درجات الصعود ودركات الهبوط.
إرادة التغيير.. مفتاح التقدم والتميّز بين البشر
وعند استعراض سجلات التاريخ ومراقبة الواقع المعاصر، نجد تفاوتًا بين البشر؛ أفرادًا ومجتمعات، فهناك من أحرزوا التقدم وحققوا الكمال في مجالات متعددة، معنوية ومادية، وهناك من يقبعون في التخلف، يراوحون مكانهم دون إنجاز يُذكر.
ويكمن سر هذا التفاوت في أعماق النفس البشرية، في إرادة التفكير وعزيمة الفعل، فالإنسان يصنع واقعه بقراراته وإرادته، رغم تأثير الظروف الخارجية والعوامل المحيطة به، فإن هذا التأثير يبقى محدودًا، ولا يلغي مسؤولية الإنسان ولا يجرده من قدرته على التحدي والمقاومة.
لذا، فإن ما يحتاجه الإنسان أكثر من أي شيء آخر هو التوجه نحو ذاته، واستكشاف مواهبه، والسعي لتفعيل طاقاته، واستخدام إرادته كسلاح في مواجهة العوائق والتحديات، فهو المسؤول عن تقدمه أو تخلفه، وهو الذي يملك مفاتيح النجاح، سواء كان فردًا أو جزءًا من المجتمع.
الأساليب القرآنية في بناء الشخصية
ولأن بناء الشخصية أمر جوهري لتحقيق هذا النجاح، جاء النهج القرآني ليرسم للأمة طريقًا واضحًا لنهضتها وتقدمها، من خلال أساليب متعددة ومتنوعة، تسهم في بناء شخصية الإنسان وصقلها، فقد تمثل هذا النهج في أساليب مثل الخطابة، والقصص، والتمثيل العملي، وضرب الأمثال، والعظة، والموعظة، والحوار، واستخدام اللين والشدة عند الحاجة، لتوجيه الإنسان نحو الكمال وتحقيق أفضل ما لديه.
وجاءت الأساليب في القرآن الكريم متعددة ومختلفة ومتنوعة؛ ليتسنى اختيار الوسيلة المنسجمة مع الأوضاع المختلفة، ومع الأشخاص المختلفين، فيتخذ كل فرد من أفراد الأمة الوسيلة المناسبة لطاقاته وإمكاناته، ومع المستويات المراد إصلاحها من ظرف لظرف، ومن محيط لآخر، أو ينوع الوسائل مع المراد إصلاحهم، تبعًا لاختلاف الأمزجة، واختلاف مستويات التلقي والقبول، واختلاف الأجواء، ولذلك تنوعت الأساليب وكان من أهمها ما يأتي:
– التنوع في الخطاب: حفلت آيات القرآن الكريم بالخطابات والبيانات التي تخاطب العقول والمشاعر والإرادة، لتفتح أمامها عناصر الخير والصلاح، وتطارد عناصر الشر والانحراف، وتستثير النفس الإنسانية لحالة الحذر من مزالق الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، حيث تعددت أشكال الخطاب الموجهة من الله تعالى، ومقاصد الأسئلة القرآنية العامة، التي لم تكن موجهة إلا من الله لجميع خلقه، أو لجميع المؤمنين، أو لجميع الناس.
ومن فوائد أسلوب الخطاب أنه يثير عواطف الإنسان، فالتأثير العاطفي بمعاني القرآن قد بلغ التأثير برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغًا عظيمًا، وذلك عندما قرئ عليه قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (النساء: 41)، وقال للقارئ: «حسبك».
– التشويق القصصي: حفلت آيات القرآن الكريم أيضًا بأحسن القصص منذ النشأة الأولى للبشرية، والقصة بطبيعتها تشد المستمع إليها وتجعله متعلقًا بسمعه ووجدانه بها، متتبعًا لأحداثها وتسلسلها، وتجعله دائم التأمل في مفاهيمها ومعانيها، والتأثر بأبطالها وشخصيتها، وتبقى عالقة في ذهنه ووجدانه؛ لسهولة حفظها ونقلها.
والقصة القرآنية تمتاز بمميزات جعلت لها آثارًا نفسية وتربوية بعيدة المدى على مر الزمن، مع ما تثيره من حرارة العاطفة، ومن حيوية وحركية في النفس، تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه وتحديد عزيمته بحسب مقتضى القصة وتوجيهاتها وخاتمتها، والعبرة منها.
– ضرب الأمثال والأقيسة: والقرآن الكريم عندما يضرب الأمثال للناس إنما يذكرهم بسنن الله التي يخضع لها كل هذا الوجود، وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة، منها؛ التذكير، الوعظ، الحث، الزجر، الاعتبار، والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس، فالأمثال تصور المعاني لصورة الأشخاص؛ لأنها أثبت في الأذهان؛ لاستعانة الذهن فيها بالحواس.
واستخدم القرآن الكريم ضرب الأمثال كأسلوب من أساليب الهداية والاستقامة، والحث على الالتزام بأوامر الله وترك نواهيه.
– العبرة والاتعاظ: يتخذ النهج القرآني من العبرة والموعظة وسيلة لتنبيه وتوجيه وتنوير العقل والقلب، مستخلصًا منها المفاهيم والقيم الكامنة وراء المواقف والحوادث التاريخية المتسلسلة، فالقرآن يستحضر هذه الأحداث ليغرسها في أعماق النفس الإنسانية، حيث تهدف العظة إلى الوصول بالسامع إلى قناعة فكرية بأمر من أمور العقيدة، أما العبرة، فهي الانتقال من معرفة المشاهد الحسية إلى ما هو غير مشاهد، أي إلى التأمل والتفكير.
ومن خلال العبرة، يعي الإنسان تقلبات الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، ويدرك أسباب التقدم والتأخر للمجتمعات والحضارات، إنها تربية للنفس وإعداد لها، لتمضي في طريقها متوجهة إلى الله تعالى، مدركة لدروس الحياة التي تعينها على فهم الواقع واستشراف المستقبل.
في نهاية الأمر يتجلى لنا بوضوح أن الإنسان قد زوّده الله تعالى بكل ما يحتاجه لتحقيق التميز والتقدم، ومع ذلك، فإن الاستفادة من هذه المقومات تتطلب إرادة قوية ووعيًا عميقًا بدوره كخليفة على الأرض، ومعرفة بأن التحديات التي تواجه الإنسان في الحياة ليست سوى فرص لاختبار إرادته وقدرته على استخدام ما وهبه الله من طاقات وإمكانات.
وقدم النهج القرآني لنا خارطة طريق شاملة لبناء شخصية الإنسان وتوجيهه نحو الكمال، فمن خلال الخطاب المؤثر، والقصص المشوقة، وضرب الأمثال، والعبر والاتعاظ، يقدم القرآن الكريم أدوات فعالة لصقل النفس وتوجيهها نحو الخير والصلاح.
ويبقى أن استيعاب هذه الدروس وتطبيقها في حياتنا اليومية يمكن أن يكون المفتاح لتحقيق التقدم والنجاح، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، فعندما يعي الإنسان تلك العبر القرآنية ويتأمل في حكمتها، يصبح أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة وتحقيق طموحاته، مستعينًا بتوجيهات القرآن الكريم ليشق طريقه نحو الله تعالى، ليكون دائمًا في «أحسن تقويم».