احتل الحديث عن الفتن في السيرة النبوية مساحة واسعة تحذيراً للمسلمين من الوقوع فيها خاصة في آخر الزمان، وما يمكن أن يحدث من اهتزازات إيمانية تصيب الكثيرين لضخامة الأحداث وسرعتها وضعف الإيمان وكثرة الأسباب المحيرة للعقل والوجدان.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينَه بعَرَضٍ من الدنيا» (رواه مسلم)؛ في الحديث دعوة للمسلم أن يسارع لفعل الخيرات والعمال الصالحة ليطبع به قلبه وسلوكه قبل أن تحل الفتن فلا يستطيع عملاً وتجرفه الدنيا للوقوع في فتنها.
واليوم تمر الأمة بمحن عظيمة وأحداث كبيرة ومنحنى خطير يلزم المسلمين فيه الأخذ بكافة أسباب الحيطة لتبرئة أنفسهم من الوقوع في الفتن وضياع الإيمان وانحراف السلوك، وعليه أن يبادر بتجنبها واتخاذ أسباب عدم السقوط فيها وحفظ الإيمان والعمل على حد سواء حتى تستطيع الأمة النهوض والخروج من المأزق.
وبين فتنة المال والولد والأهل والشهوات والإعلام الموجه والفن الهابط والإنترنت المفتوح دون رقابة ومتطلبات الحياة المعقدة كل هذا على مستوى الفرد، إلى فتنة العدو والحروب والوهن على مستوى الأمة، يتأرجح المسلم اليوم بين هذه الفتن مجتمعة، فما الفتن؟ وما أسبابها؟ وكيف نتجنبها؟
التحذير من الفتن في القرآن
في معرض الحديث عن مآل الكافرين ورد لفظ الفتنة بمعنى التعذيب، يقول تعالى: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ {10} الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ {11} يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ {12} يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ {13} ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (الذاريات)، ووردت بمعنى المعاصي والاختبار بها؛ فقال تعالى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) (البقرة: 102).
ووردت بمعنى المعاصي الدنيوية في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11)، ووردت في شبهة النفاق والهروب من المسؤولية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة: 49)، كما وردت بمعنى الاختبار: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت).
النبي يحذر أمته
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم، لا يدري القاتل فيم قَتل، ولا المقتول فيم قُتل؟»، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: «الهَرجُ القاتل والمقتول في النار» (رواه مسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملَّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة» (رواه أحمد وغيره وحسنه الحافظ).
المجتمع المسلم محفوظ من الفتن إن هو اتبع تعاليم دينه فوأد كل فتنة في مهدها، وكي نصل لمواجهة لتلك الفتن وحلول عملية لها يجب أولاً معرفة أسبابها لتجنبها، ومن هذه الأسباب(1):
– استعداد القلب للوقوع فيها:
المسلم مختار، يتحكم في سلوكه بإرادته كاملة، يستطيع أن يسير في أي اتجاه يريد، خيراً كان أو شراً، والإنسان هو من يقرر أي سبيل يسلك، فهو من يسمح للفتن بعبور قلبه والتمكن منه حتى يستسلم تماماً للذنوب والمعاصي ولا يميز بعد بين الصالح والفاسد، فعن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه» (صحيح مسلم).
والقلب يستعد للفتن حين لا يقاومها منذ البداية ويؤجل التوبة عن الصغائر تهويناً من شأنها وظناً منه أن الزمن سوف يسعفه بالتوبة في وقت لاحق، كذلك مقارنة نفسه بأصحاب الكبائر ليجدها في وضع أفضل فينال منه الشيطان ليجرفه أكثر في سبيل المعصية فيفقد الرؤية والتمييز والإدراك.
– الخوض بالألسنة:
وإطلاق الألسنة بالأكاذيب والشائعات يشعل العداوات بين أفراد المجتمع الواحد، وقد حدث في عهد النبوة مثل تلك الشائعات، وعانى منها المسلمون جميعاً، وذلك في حادثة الإفك، حيث كاد بعض الصحابة أن يهلكوا بوقوعهم في الفتنة وخوضهم في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد أراد الله عز وجل أن تدور أحداث تلك الفتنة في العهد النبوي ليتنزل القرآن ويعلم الجماعة المؤمنة كيف يكون التعامل مع الفتن وكيف يمكن تجنبها، فقط أطلق رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول شائعة بكلمة واحدة في حق السيدة عائشة وأحد الصحابة قائلاً: والله ما سلم منها ولا سلمت منه، كلمة بسيطة كادت تدخل من وقع فيها النار وهو لا يدري بعظم ما وقع فيه، وتمت الفتنة وسقط فيها من سقط، ونجا من نجا، رغم وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم.
ومن شدة انتشار الشائعة أثرت في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعتزل زوجته الطاهرة وهي لا تدري ما يدور بالخارج لمدة شهر كامل، يتحدث المسلمون وقد وصف القرآن الحادثة توصيفاً دقيقاً حين قال سبحانه: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).
– تخلي الأمة عن خيريتها:
ومن مسببات الفتن أن تتخلى الأمة عن مقتضيات خيريتها؛ وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ دعوة الله عز وجل، وخيرية الأمة ليست ميراثاً مطلقاً، وإنما صفة مكتسبة من أمر الله عز وجل، فالله تعالى يقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110)، والخيرية المقصودة في الآية الكريمة ناتجة عن أعظم مهمة عرفتها البشرية منذ بدايتها وحتى قيام الساعة، وهي مهمة هداية البشر لتوحيد رب العالمين وعبادته وحده، وإنقاذ الإنسان من الوقوع أبدياً في نار جهنم، وإنقاذه في الدنيا بضمان سعادته حين يسير على الصراط المستقيم، وليس أعظم من مهمة إنقاذ إنسان في الدارين، ففتنة الأمة في تخليها عن مهمتها.
سبل تجنب الوقوع في الفتن
بما أن الفتن تحدث نتيجة أسباب استسلام القلب لها أولاً، فالخطوة الأولى تتلخص في تحصين القلب المسلم بالابتعاد عنها، ومعرفة مكامن الخطر والضعف الإنساني وتجنبها، أيضاً حفظ اللسان من الكذب وإطلاق الشائعات وعدم الخوض فيها بحجة أن الجميع يفعل، فلن يعجز الله عز وجل أن يكون جميع الخلق في النار، والتمسك بالمنهج القرآني وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلمس طريقه.
وعلى عقلاء الأمة أن يعيدوها قدر المستطاع لمهمتها الأساسية التي خلقت من أجلها في دعوة الخلق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر واستعادة مكانة الأمة في ريادتها للعالم برسالة الرحمة للعالمين.
______________________
(1) من كتاب «هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقاً» لمحمود محمد الخزندار، بتصرف.