لما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ، وطغى في ولايته وتجبَّر، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، وذات يوم بنى الحجاج قصراً عظيماً ونادى الناس ليشهدوا تمامه وروعة منظره، فاستغل الحسن البصري تجمع الناس وقام فيهم خاطباً، وقال: «لقد نظرنا إلى ما بنى الحجاج فوجدنا أن فرعون شيّد أعظم مما شيّد وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون وأتى على ما بنى وشيّد، ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه وأن أهل الأرض قد غرّوه».
ومضى الحسن البصري على هذا حتى أشفق عليه الناس، وخافوا عليه من بطش الحجاج به، فقالوا له: حَسُبك؛ أي يكفي هذا، فقال الحسن: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليُبينُنّه للناس ولا يكتمونه.
دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلسائه: تباً لكم وسُحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفاً بين يديه، ثم وجَّه الحجاج بعضَ جنده إلى الحسن البصري، وأمرهم أن يأتوا به.
وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله.
ولما رأى الحجاجُ، الحسنَ البصري على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا بجواري، فما زال يوسع له ويقول: ها هنا، والناس لا يصدَّقون ما يرون، فقد طلبه الحجاج ليقتله، فكيف يستقبله الحجَّاج، ويقول له: تعالَ إلى هنا يا أبا سعيد؟! حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه!
ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة، حتى قال له الحجاج: أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية (نوع من أنواع الطيب) وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه.
الدعاة يستعينون بالله ويحسنون اللجوء إليه ويطلبون منه ما يعينهم على تفريج كربهم
ولما خرج الحسنُ البصري من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإني رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت؟ فقال الحسن: لقد قلت: يا وليَّ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته برداً وسلاماً عليَّ، كما جعلت النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم(1).
في هذا الموقف تأكيد على أن الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية كانوا يستعينون بالله تعالى ويحسنون اللجوء إليه ويطلبون منه ما يعينهم على تفريج كربهم وتيسير أمورهم وتهوين شأن الظالم في نفوسهم.
فلماذا اهتمت الحضارة الإسلامية بإعداد الدعاة على الاستعانة بالله تعالى وحسن اللجوء إليه وطلب التوفيق منه؟
أولاً: اليقين أن النافع والضار هو الله:
إن الناس، مهما أوتوا من قوة، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، بل إن الضار والنافع هو الله، فهو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وقد فطن العلماء والدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية إلى هذا المعنى، ومنهم من خاض في هذا تجارب متعددة.
منها ما أورده الأصبهاني في «حلية الأولياء» أن عبيد الله بن زياد أخذ ابن أخي صفوان بن محرز المازني، ووضعه في السجن، فقام صفوان بن محرز يسوق الناس عليه ويستشفع بهم لديه أن يخرج ابن أخيه من السجن، ولم يُبق أحداً إلا كلّمه فيه، ومع ذلك لم يجد لحاجته نجاحاً ولا لطلبه قبولاً، فبات ليلة في مصلاه وهو يصلي، ثم نام في مصلاه، فلما رقد أتاه آت في منامه فقال: يا صفوان، قم فاطلب حاجتك من قِبَل وجهها، قال: أفعل!
فقام وتوضأ فصلى ودعا قال: فتنبه ابن زياد لحاجة صفوان في بعض الليل، فقال: عليَّ بابن أخي صفوان؛ يعني ائتوني به، فجاء الحرس والشرط والنيران ففتحت أبواب السجن حتى استخرج ابن أخي صفوان فجيء به إلى ابن زياد، فقال له: أنت ابن أخي صفوان؟ قال: نعم! قال: فأرسلَه فما شعر صفوان حتى ضرب عليه الباب، فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، ففتح له متعجباً! فأجاب الفتى: تنبه الأمير في بعض الليل فجاء الحرس والشرط وجيء بالنيران وفتحت أبواب السجون فجيء بي فخلَّى عني بغير كفالة(2).
ثانياً: الله يجيب من دعاه:
قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، فهو يجيب دعوة من أخلص له في الدعاء، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه(3).
ومن الأمثلة التي تدل على حرص الدعاة على الدعاء ويقينهم في الإجابة ما كان حين أصاب الناس قَحط في آخر مدَّة الناصر لدين الله، فأمَر القاضي منذر بن سعيد البلوطي بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهَّب لذلك وصام بين يديه ثلاثة أيام، فاجتمَع له الناس في مصلَّى الرَّبض بقرطبة، بارزين إلى الله تعالى في جَمْع عظيمٍ، وصَعد الخليفة الناصر في أعلى مكان؛ ليشارف الناس، ويُشاركهم في الخروج والضراعة إلى الله، فأبْطَأ القاضي؛ حتى اجتمَع الناس، وغَصَّت بهم ساحة المصلَّى، ثم خرَج نحوهم ماشياً مُخبتاً، وقام ليَخطب.
فلمَّا رأى الناس في ارتقابه، رقَّت نفسه، وغَلَبته عيناه، فاستعْبَر وبكى حيناً، ثم افتتَح خطبته، بأن قال: يا أيها الناس، سلام عليكم، ثم سكَت، ولَم يكن من عادته، فنظَر الناس بعضهم إلى بعض، لا يدرون ما به، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً لقول الله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام: 54).
.. فنالوا إجابة الدعاء وفازوا بالتأييد الإلهي الذي مكَّنهم من حفظ دينهم والنهوض بدنياهم
ثم قال: استغفروا ربَّكم، إنه كان غفاراً، استغفروا ربَّكم ثم توبوا إليه، وتَزَلَّفوا بالأعمال الصالحات لَديه، فضجَّ الناس بالبكاء، وجأَرُوا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته، ففَزِع الناس بوعظه، وأحسَّ الناس الإخلاصَ بتذكيره، فلم يَنقضِ النهار حتى أمَر الله السماء بماء مُنهمرٍ، روى الثرى(4).
ثالثاً: الله يعطي من دعاه أكثر مما سأل:
قال ابن تيمية: يَا ابْنَ آدَمَ، لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنَّهُ لَيَكُونُ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيَفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قُضِيَ انْصَرَفَتْ(5).
إذا كانت الحضارة الإسلامية قد اعتنت بإعداد الدعاة على الاستعانة بالله وحسن اللجوء إليه؛ فما أهم الوسائل التي اعتمد المربون عليها في ذلك؟
أولاً: الأمر بالدعاء في كل الأحوال:
كان الدعاة إلى الله تعالى يدعون الله في الشدة والرخاء، وفي حال الطاعة والمعصية، قال أبو الدرداء: ادع الله تعالى في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك، وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة(6).
كما حث الدعاة في الحضارة الإسلامية الناس على الدعاء في حال المعصية، يقول سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلمه من نفسه، فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس: (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {36} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ) (الحجر)(7).
ثانياً: الحث على الاجتهاد في الدعاء والإلحاح فيه:
عن الحسن رضي الله عنه أنهم كانوا يجتهدون في الدعاء، وقال الأوزاعي: أفضلُ الدعاء الإلحاحُ على الله والتضرعُ إليه(8)، وعن طاووس قال: إِنِّي لفي الحجر ذَات لَيْلَة، إِذْ دخل عَليّ بن الْحُسَيْن، فَقلت: رجل صَالح من أهل بَيت الْخَيْر، لأستمعن إِلَى دُعَائِهِ اللَّيْلَة، فصلى، ثمَّ سجد، فأصغيت بسمعي إِلَيْهِ، فَسَمعته يَقُول: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سَائِلك بفنائك، قَالَ: طَاووس: فحفظتهن، فَمَا دَعَوْت بِهن فِي كرب، إِلَّا فرج الله عني(9).
ثالثاً: الوصية بالدعاء للخواص:
ونعني بالخواص من كانت له ميزة من محبة قلبية كالأهل والذرية، ومن كانت له ولاية كالحاكم للرعية، أما الدعاء للذرية ففيه قال مالك بن مغول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية: (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15)(10)، أما الدعاء للحاكم فقد قال عنها الفضيل بن عياض: لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام، قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى ما صيرتها في نفسي لم تحزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد(11).
رابعاً: النهي عن الاعتداء في الدعاء:
الِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ يَقَعُ بِزِيَادَةِ الرَّفْعِ فَوْقَ الْحَاجَةِ أَوْ بِطَلَبِ مَا يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ شَرْعاً أَوْ بِطَلَبِ مَعْصِيَةٍ أَوْ يَدْعُو بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ خُصُوصاً مَا وَرَدَتْ كَرَاهَتُهُ كَالسَّجْعِ الْمُتَكَلَّفِ وَتَرْكِ الْمَأْمُورِ(12)، وقد ربّى الدعاة أبناءهم على عدم الاعتداء في الدعاء، حيث روى أبو داود في سُننه عن عبدالله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء.
إن الدعاة في الحضارة الإسلامية حرصوا على الاستعانة بالله عز وجل وحسن اللجوء إليه، فنالوا إجابة الدعاء، وفازوا بالتأييد الإلهي الذي مكنهم من حفظ دينهم والنهوض بدنياهم.
_______________________
(1) الفرج بعد الشدة: التنوخي (1/ 189).
(2) حلية الأولياء: الأصبهاني (2/ 215).
(3) الدعاء ومنزلته من العقيدة: جيلان العروسي (1/ 375).
(4) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: أبو العباس التلمساني (2/ 279).
(5) مجموع الفتاوى (10/ 333).
(6) الفرج مع الشدة: علي الطهطاوي، ص 114.
(7) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: الزبيدي (5/ 252).
(8) مجموعة رسائل ابن رجب الحنبلي، ص 307.
(9) الفرج بعد الشدة: التنوخي (1/ 148).
(10) تفسير القرطبي (16/ 195).
(11) حلية الأولياء (8/ 91).
(12) فتح الباري: ابن حجر (8/ 298).