لقيني أمس اثنان من الأصدقاء، فلامني أحدهما على أني أكشف رأسي وأحلق لحيتي، وقال الآخر مازحاً: دعه، حاجتنا من «المشيخة»؛ ابقَ كما أنت يا رجل.
فقلت في نفسي: سأجعل جوابهما هذا الفصل. وما ذاك لأني أحب أن أشغل الناس بالحديث عن نفسي، بل لأن هذا الموضوع مما تخوض فيه الألسنة ويدور عليه الجدل ويجب بيان وجه الحق فيه.
* * *
أما حلق اللحية فلا والله ما أجمع على نفسي بين الفعل السيئ والقول السيء، ولا أكتم الحق لأني مخالفه، ولا أكذب على الله ولا على الناس. وأنا أقر على نفسي أني مخطئ في هذا، ولقد حاولت مراراً أن أدع هذا الخطأ ولكن غلبتني شهوة النفس وقوة العادة، وأنا أسأل الله أن يعينني على نفسي حتى أطلقها، فاسألوا الله ذلك لي فإن دعاء المؤمن للمؤمن بظهر الغيب لا يُرَدّ إن شاء الله.
وأما كشف الرأس فما فيه كبير أمر، وإن كان الستر أحسن. ولقد كان عامة العلماء في الأندلس على كشف الرأس، وكانت العمامة عندهم للقضاة وأرباب المناصب.
ومهما يكن من أمر العمامة التي وردت بذكرها بعض الآثار فما هي بالعمامة التي نعرفها في بلاد الشام، ولا كان عليها أمر السلف. وما كان يعرف السلف زياً خاصاً للعلماء ولا للرؤساء، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس ما اتفق له، لا يلقي لذلك بالاً ولا يوليه اهتماماً؛ لذلك تعدّدت ألوان عمامته وأشكال ثيابه. وما كان يمتاز من أحد من أصحابه بلبسة ولا جلسة، حتى كان الأعرابي يدخل مجلسه، فيقول: أيكم محمد؟ وكان المستقبلون يوم الهجرة يسلمون على أبي بكر يحسبونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مالت الشمس فأصابته فقام أبو بكر يظلله بردائه فعرفوه من ثَمّة.
وما لهذا كتبت هذا الموضوع، وما أريد أن أدافع عن نفسي وأردّ على الصديق الذي انتقدني، بل لأتكلم في هذه «المشيخة» التي أراد الصديق الذابُّ عني أن يبرئني منها. هذه «المشيخة» التي صارت على ألسنة كثير من الناس نبزاً ينبزون به كل متدين وكل محافظ على السنة، وصارت مداراً للانتقاص وسبباً لرفض كل موعظة والإعراض عن كل نصيحة؛ فإن وعظت غافلاً أو نصحت حائراً قال لك: “عِفْنا بلا مشيخة”!
وصارت عَلَماً على طبقة من الناس تأخذ من الناس ولا تعطيهم، وتستجيب لدعواتهم ولا تدعوهم، وتقول لهم ولا تسمع منهم! وسمة لمن هو غريب عن عاداتهم ومواضعاتهم، صارم في وعظهم، شديد في نصحهم، لا يقبل رداً على كلام ولا جدالاً في رأي، يتكلم بـ «النحوي» ويتأخر عن الموعد … وما هو من هذه الصفات بسبيل وما القرّاء أعرف به مني.
فمن أين جاءت هذه المشيخة التي نفّرت الناس من الدين وأبعدتهم عنه؟
أما الصدر الأول للإسلام فلم يكن يعرفها، وليس في الإسلام رجال هم وحدهم «رجال الدين» وغيرهم «رجال الدنيا»، ولكن في الإسلام علماء وجهلاء. وباب العلم مفتوح، فكل من تعلم أحكام الدين وعمل بما علمه منها كان هو المرجع فيه؛ لذلك صار عكرمة ونافع وأمثالهم من العبيد، صاروا سادة الأحرار وأساتذتهم لمّا علموا وعملوا بما علموه.
وإذا عرضت سير العلماء الأولين، الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لا تجد فيهم من اتخذ لنفسه هذه «المشيخة» ولا عرفها؛ إنها لم تُعرف إلا في قرون الانحطاط، بذور تسرّبت إلينا (إلى الصوفية) من هنا وهناك، ثم رسخت جذورها وبسقت غصونها، ثم قُرّرت قواعدها وجُعلت إحدى الشعائر الصوفية، فأوجبوا على «المريد» الطاعة العمياء لشيخه وأنْ يكون بين يديه كالميت بين يدي الغاسل، وقالوا إن من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان!
ومنعوا المريد أن يحضر على غير شيخه أو يستمع منه، وحرّموا عليه أن ينكر عليه ولو رأى منه منكراً ظاهراً أو أن يعصيه ولو أمره بما يخالف الشرع. وقاسوا ذلك قياساً فاسداً على قصة الخضر وموسى، مع أن الخضر ما عمل إلاّ بوحي {وما فعلتُهُ عن أمري} وأن الشرع حجة على الشيخ وغير الشيخ، والشيخ ليس حجة على الشرع، وإنكار المنكر واجب ولو وقع من الشيخ.
كان على الرجل إذا أراد أن يكون من العلماء أن يحمل مشقات الرحلات، ويثني الرُّكَب في المجالس، ويحيي الليالي في المطالعة، وينفق السنين في الطلب … فهان الأمر حتى اقتصر على عشرة أذرع من الشاش وجُبّة عريضة وسبحة طويلة، ولو لم يكن تحت العمامة إلاّ رأس فارغ من العلم، ولو لم يكن في الجبّة إلاّ جسد يتربّى بالحرام!
فلما رأى العوام ذلك، وأبصروا ناساً لهم زي العلماء وأفكار الجهلاء وأعمال السفهاء، ورأوهم يصفُّون الأقدام في المساجد رياء ويحركون الألسنة بالتسبيح ظاهراً، لم يعرفوا أن هؤلاء أدعياء في العلم وأن الإسلام ينكرهم ويأباهم، بل حسبوا أنهم هم العلماء وأنهم هم الصلحاء، واتخذوهم وسيلة إلى الطعن في العلم والصلاح.
وإذا أردتم أن تعرفوا مبلغ إيذاء هؤلاء القوم للإسلام فإني أسوق لكم مثلاً واحداً: قصّة رجل يرونه اليوم ركناً من أركان التربية وهو من أركان الضلال، يكره الدين وأهله ويبعد الطلاب ما استطاع عنه وعنهم. كلّمته في هذا من فمي إلى أذنه كلاماً طويلاً في مجلس حافل جمعني به في مصر، فكان من حجته أن شيخاً من هؤلاء المشايخ (ولا أقول العلماء) كان معلمَ الدين في المدرسة الابتدائية التي تعلّم فيها، وكان من وصفه، وكان من حديثه، وكان من سيرته ما نفّره من الدين وكرّهه إليه.
ولم أقرّه على ما قال ولا سكتُّ له، ولكني ازددت يقيناً بيني وبين نفسي بأن من الواجب أن نقضي على هذه الصناعة التي اسمها «المشيخة» (١)، وأن نُفهم الناس أن هذه المظاهر لا قيمة لها إن لم يكن معها علم صحيح وتقوى حقيقية، وأنها ليست شرطاً للعلم ولا للتقوى ولا تَلازمَ بينها وبينهما، فرُبّ عالِم ليس بذي عمامة ولا جبّة، ورُبّ جاهل مخادع وهو صاحب عمامة كالبرج وكُمّ جبّة كالخرج.
وأن يكون الدعاة إلى الإسلام عالِمين بالإسلام حقاً، بعيدين عن الغلظة في القول وعن الجهل بالدنيا وعلومها وعاداتها، فليس من الضروري أن يكون الداعي إلى الله غريبَ اللهجة مستنكَرَ الهيئة، ولا أن يأكل بأصابعه إن أكل الناس بالملعقة والشوكة، ولا أن يُقعد ضيوفه على الطراريح وفي بيته الكراسي والمقاعد، ولا أن يتشدّق ويمضغ الكلام ويحرص على الإخفاء والإدغام، ولا أن يكلّم الناس من فوق المآذن … بل أن يستنّ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: يلبس كما يلبس الناس ويأكل كما يأكل الناس، إلاّ أن يكون في ذلك ممنوع في الشرع، وأن يتلطّف بالأمر والنهي، وأن يبدأ بما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم من تصحيح العقيدة وتعلم الفرائض وبيان الكبائر، وأن يخاطب الناس على قدر عقولهم وعلى مقتضى أحوالهم، وألاّ يبدأ بفروع الفروع قبل أن يؤصّل الأصول، فإذا وجد رجلاً يدخل المسجد أو يؤمّ مجلس أهل الدين أول مرة وهو لا يدري ما الإسلام، ورآه يشرب بشماله مثلاً أو يتجرع الكأس أو لا يسمي، لم يحسن به أن يصرخ في وجهه بأنه خالَف السنّة. فيخجله في الملأ. وإذا شاهده قد عطس ولم يحمد الله فلا ينبغي أن يقرّعه أو يأمره بالحمد أمراً ينفّره. ولا أريد أن يكون العالم متساهلاً ولا أن يبالغ في الرِّقّة حتى يتخرّق ويتمزق، بل أريد أن يكون الشرع هو الميزان، فما كان له في الشرع رخصة رخصنا فيه، وما كان له حكمان ألزمنا المبتدئ بأخفهما عليه، رفقاً به وإبقاء عليه، وما كان منكَراً ظاهراً لا ترخيص فيه ولا اجتهاد، أنكرناه ولو قالوا عنّا ما قالوا.
إنني أكتب لنفي صناعة المشيخة وإفهام الناس أن المسألة ليست بالعمامة والجبة ولكن بالعلم والتقى، وأن علينا -إذا أمرنا بمعروف- أن نجعل أمرنا بالمعروف وأن نستن بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة. وأعوذ بالله أن أقول لأحد: “اكتم الحق ليقول الناس إنك لطيف”، أو “أقْرِر الباطل الذي تراه ليقولوا إنك مهذب”، أو “ساير الناس في طريق الإثم ليقولوا إنك اجتماعي” ….
لا، بل الشرعَ الشرعَ؛ ما حرّمه حرّمناه، وما أحلّه أحللناه، وما أمر به فعلناه، وما نهى عنه تركناه. وما أنكرنا هذه الصناعة التي استحدثها الناس وسمّوها «المشيخة» إلاّ لأن الشرع ينكرها والصدر الأول لم يعرفها، وأنها صارت سبباً للتنفير من الدين وباباً قد دخل منه كثير من الأدعياء والمرائين.
وما أردت بما قلت إلا مصلحة الإسلام، فإن كنت قد أخطأت في شيء فأسألُ بالله من عرف الخطأ أن يردّه عليّ على صفحات «المسلمون»، وأنا أسامحه من الآن مهما اشتد في المقال.
________________________________
من كتاب «مع الناس».